كتَـــــاب الموقع

بهيجة

سالم العوكلي

أثار (رحيل) ضجة خافتة من أصوات تنبه بهيجة بقدومه قبل أن يدخل خيمتها بحفنة الشعير المعتادة، لم ترفع بهيجة الرواق كعادتها لتأذن له، فدخل ليجدها نائمة بقرب ابنتها تتغطيان بردائها الباهت الأزرق المقلم بخطوط سوداء، والذي انحسر عن ساقيها وجزء من إحدى ركبتيها، بينما ذراعها الممتلئة القوية تحيط بخصر ابنتها، وكانت تغط على غير عادتها في نوم عميق. حدّق على ضوء الفنار الخافت في جمال بشرتها التي تومض في الغبش بلمعان برونزي، بينما ركبتها العارية مشوبة بحمرة شفقية كلون الحناء الباهتة، واستغرب كيف يختفي كل هذا السحر في الحياة النهارية خلف ملابسها الداكنة الرثة، وكيف تتوارى هذه النعومة خلف مشيتها الذكورية وصلابة نظراتها القاسية التي تدرأ بها أي هاجس بالتفكير فيها كأنثى أو وليمة لفحل عابر. لقد سبق أن رأى ساقيها القويين بازغين من تحت الرداء وهي تسير معهما حافية في قافلة التهجير أو وهي تتنقل داخل المعتقل، لكن لم يثيراه بهذا القدر وهما مستلقيان بسلام كسيفين في متحف. كان ساقاها وهي واعية لتحولها الجنسي الطقسي صوب الجنس الآخر يؤازرانها ببروز عضلات من خلف الجلد الناعم فيبدوان كساقي مصارع أو بحّار عتيق، غير أن النوم يتواطأ مع الأنوثة ويعيد كل تفاصيل جسدها إلى وداعته الأولى فتبدو وهي نائمة كساحة معركة زحف على مخلفاتها عشب طري.

الآن، يُفكّر الروائي في أخذة رحيل التي لم تُعطه فرصة للتفكر: تتحول بهيجة المستلقية والحاضنة لابنتها كنص شعري مستلقٍ على ورقة بيضاء، تتناغم تفاصيل جسدها كما تتناغم الكلمات في قصيدة، وتبدو فيه منحنياته الناعمة تحت الرداء كمجازات شعرية.

حدّق رحيل في هذا السياق الخارج عن نصها، وبالتأكيد لم يكن يدرك كل تحليلات الروائي وهلوساته تجاه الحالة، لكن الغريزة التي بدأت تفور في أعماق رحيل قد تصل إلى ما يُشبه هذا التحليل عبر قوى الحدس التي بدأت تعمل عنده بقوة، وهو يحمل كيس الشعير الصغير في يده المرتعشة كي يضع منه حفنة في مخلاتها ويمضي منحنياً من تحت الرواق.

لا يعرف كم استغرقه من وقت التحديق في جسد بهيجة الذي فصله تماماً عن جسم ابنتها النحيل، وتأمّل انحناءاته تحت الرداء الذي كانت ترتديه قبل الغروب حين رمقها قادمة إلى بيتها بخطوات ثابتة ورأس مرفوعة كناقة يقودها الحنين إلى رضيعها، كان الرداء يلف وسطها وصدرها، مربوط طرفاه فوق كتفها، ومن الأمام ينساب جزء منه حتى ركبيتها، ومن خلف يتهدل طرفه الآخر كستارة تلامس كاحليها، كانت مازالت تسير حافية محتفظة بحذائها الجلدي الملون الذي كان جزءاً من متاع زواجها لمناسبة سعيدة قد لا تأتي أبداً، التشققات الرقيقة في قدميها تضفي عليهما شيئاً من الإثارة مثل التجاعيد التي تحيط بالحلمة. كان يتتبع آثار أقدامها المرسومة على الأرض ويقرأها كأنها رسائل كتبت له أو إشارات على الطريق تدله صوب فراشها الذي لم يكن سوى نسيج صوفي بدوي فوق حصيرة مضفورة من نبات الديس، وحين أحضر الشعير خلع حذاءه ومشى فوق رسم قدميها حتى وصل إلى طرف الرواق، توقف قليلاً ليلفت انتباهها بسعال مفتعل، وحين لم ترد انحنى ودخل ليجد هذا السلام الفاتن الذي يغمر أرملة حديثة وابنتها، وهما يغطان في نوم عميق وسط هذا الأنين الخافت في قطعة من الصحراء يتسكع فيها الموت بكل أبهة. حدق في جسدّها المنطرح من أعلى حتى أمتلأ جسده بطاقة كافية لأن تجعله يحمل سيفاً ويبدأ في حز رؤوس كل من أهانوا بهيجة، وكافية لأن يتحول إلى قنبلة تنفجر قرب مكتب باريلي، أو سكيناً يحز رأس موسى الذي جلد هذا الجسد شبه عارٍ دون أن يردعه هذا الجمال الذي ردع يوماً طياراً نازياً عن قصف قرية بولندية بعدما رأى جمالها من علٍ.

*من رواية “جريمتك يا قرنفل”

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى