اهم الاخباركتَـــــاب الموقع

“براعم” مَوُءودة في غابة “البراعم”

سالم العوكلي

حين تُرتكب جريمة مروعة في المجتمعات التي تجاوزت طور الوحشية، يتمنى الرأي العام أن يكون المجرم مختلا يعاني من مرض نفسي، خصوصا إذا كانت هذه الجريمة متوجهة إلى أضعف أركان المجتمع، النساء أو الأطفال، ومرجع هذا التمني رغبة مضمرة في الاطمئنان على القيم الإنسانية في المجتمع التي أفرزها الترقي الإنساني، فجريمة قتل طفل تدق جرس إنذار خطير في المجتمع الذي تغدو فيها البراءة مهددة والطريق إلى المدرسة مليء بقطاع الطرق المتوحشين.
هي أمنية تعيد تأهيل الضمير العام ومنحه نوعا من الطمأنينة الداخلية، لأن الفزع الذي تثيره مثل هذه الجرائم لا يمكن تصوره، ولعل أهم ما ينتج عنه انحسار الإيمان بالكائن الإنساني، وفقدان الثقة في فعالية القوانين والأعراف والأخلاق التي تجعل التعايش ممكنا . الجميع يريد أن يصدق أن هذا المجرم المتوحش مغلوب على أمره وتحركه قوى نفسية مختلة تجعله يخرج من دائرة الإنسانية، والجميع يريد أن يطمئن على نفسه وأطفاله بكون ما حدث استثنائيا ولا يشكل قاعدة.
وعادة حين يكتشف المجتمع أن المجرم شخصاً سويا، وارتكب جريمته بكامل قواه العقلية، يصاب بنوع من الدوار الحاد فاقدا الثقة في أصله الإنساني وفي المستقبل البشري المكتظ بالوعود الحالمة، ومثل هذا الاكتشاف المفزع هو ما يحيل ذلك الحدث إلى جنازة احتجاج كبير في شكل جنازة قومية.
صاحبت حراك فبراير وما بعده الكثير من الجرائم، التي عادة ما تكون مستساغة بحكم الظروف التي تحيط بها بعد انهيار نظام شمولي مسك لعقود بكل خيوط الدولة ، أو بالأحرى المنظومة الأمنية التي كانت تسمى دولة. جرائم كثيرة يمكن تجاوزها أو القفز عليها أو نسيانها مع الزمن لأنها مألوفة في ذاكرة العنف البشري وفي أرشيف الصراعات التي تصاحب حركات تغيير جذرية.
لكن ظلت مأساة أطفال الشرشاري مقضة لمضجع الليبيين ، وظل الكثير من الليبيين يتمنى أن يكون الخاطف وفيما بعد القاتل مختلا عقليا لعل في ذلك مواساة لما تبقى فينا من خير وأخلاق.
ثلاثة أطفال أشقاء : عبدالحميد ، ومحمد، وذهب ، عائدون من مدرستهم، يتعرضون للخطف عن سبق ترصد من قبل مجموعة ملثمين، ويساقون إلى جهة غير معلومة، ويظل اختفاءهم لغزاً ومأساة عكرت طمأنينة المجتمع وإن لم تعكر صفو السياسيين الذين كانوا يتناحرون على كعكعة ليبيا المغمسة في الدم ، ولا حكومات طرابلس أو ميليشياتها التي جعلها الصراع على المال تعمى عن جراح وأحزان الناس ، ولا عكرت صفو دار الإفتاء وشيخها الذي حين حدثه الأب عن أطفاله المخطوفين أشاح عنه وتحدث عن الطريق الساحلي بالرغم أنه الوحيد الذي كان حينها قادرا على إنقاذهم باعتبار الجناة ـ الذين يسميهم ثوارا مجاهدين ــ يتبعون فتاواه.
وُئد الأطفال وهم براعم في غابة (البراعم) جنوب مدينة صرمان ، قتلوا بدم بارد مقابل حفنة من المال، في أرض مجنونة أصبحت غاباتها تتحول إلى مقابر جماعية.
ويظل السؤال : من الذي نفذ هذه الجريمة الشنعاء ؟ وكيف استطاع قتل أطفال بالتأكيد كانوا يستغيثون به ؟ هل حدق في عيونهم البريئة لحظة القتل ؟ والسؤال المهم هل القاتل أو القتلة مختلون عقليا؟ .
بعد القبض على بعض القتلة يتضح وللأسف أنهم في ذروة قواهم العقلية ومكلفون بمهام من قبل سلطات طرابلس المختلفة، وأن هذه الجريمة تفضح أخلاقية حكم يتبنى الدين منهجا له. فالوحشية التي تدرجت تحت ظل هذا الحكم كان لا بد أن تصل ذروتها وتدق ناقوس الإنذار فيما حدث ويحدث. لو حدثت هذه الجريمة في بقعة أخرى متحضرة كان يمكن على المستوى الشعبي أن تتحول الجنازة إلى جنازة قومية أو وطنية، وتتحول إلى مظاهرة كبرى ضد هذا الاختلال الكبير في منظومة القيم المهدد لأصلنا الإنساني، هذا من ناحية ، ومن ناحية أخرى ستتسابق وسائل الإعلام على أن تعلن أن هذه الجريمة ليست إرهابية لأن لا دافع ديني خلفها، وهي المهزلة التي تتكرر مع جرائم عدة ، مع أن كل هذه العصابات تدين بكل ما تفعله للشر المطلق نفسه، سواء كانت جريمتها من أجل مال أو من أجل ورقة سياسية أو مغلفة بالدين.
كم تمنينا أن يعود هؤلاء الأطفال إلى حضن أمهم وأبيهم ، لكن الشر قال كلمته ، فتمنينا أن يكون المجرم مختلا أو فعل فعلته تحت وطأة مرض نفسي كي نستعيد بعض توازننا النفسي والأخلاقي الذي يختل يوما بعد يوم ، لكننا نكتشف في النهاية أن الخاطفين أو القتلة جزء من تراتبية نفوذ يتلقى ميزانية رسمية ويتبعون غرفة ثوار ليبيا التي كان يدعمها المؤتمر الوطني بكل قوة وصرف لها ميزانية بما يقارب المليار دينار ليبي ، وتدعمها دار الإفتاء وشيخها بما تقدمه لهم من فتاوى تدعوهم للجهاد ضد المرتدين من الجيش الوطني أو الأجهزة الأمنية أو من المدنيين الذين تطوعوا للدفاع عن أطفالنا .
يصبح في عقيدة دار الإفتاء ومريديها شهيدٌ مثل (طارق السعيطي) ينظف الطرق إلى مدارس الأطفال من الألغام مرتدا، بينما الملثمون الذين يخطفون الأطفال في طريقهم إلى المدرسة ثوارا ومجاهدين .
قد ننسى الكثير من الجرائم أو نتناساها، لكن جريمة قتل عبدالحميد ومحمد وذهب، يجب أن لا تنسى وأن تكون طازجة وحية في ضمائرنا خصوصا حين نعرف أن الجسم الذي انتخبناه (المؤتمر الوطني) والحكومات التابعة له هي المسؤولة إجرائيا وأخلاقيا عن هذه الجريمة الشنعاء، وتتحمل جميعها المسؤولية كاملة لأنها كانت الداعمة والراعية للخاطفين والقتلة والساكتة لأكثر من عامين عن جريمة الخطف.
على جنازتهم أن تتحول إلى حدث وطني يخرج فيها الملايين حاملين صورهم، وأن يتحول يوم قتلهم أو العثور على جثامينهم إلى ذكرى سنوية تذكرنا بأن الشر حين يكون خيارا فلا حدود له، وأن دولة الأمان والعدل لا تقام إلا في ظل مؤسسات دورها أن تحمي المواطن قبل الوطن.
من المفترض أن يحدد قطاع التعليم أو قطاعاته المنقسمة يوما لكي يؤبن هؤلاء الأطفال في كل مدارس ليبيا ورياض أطفالها، وتعلق صورهم في كل المدارس والرياض. من أجل أن لا تذهب أرواحهم البريئة هدرا يجب أن نحيل مأساتهم الموجعة إلى ذكرى نابضة وجرس ينبهنا إلى حدود الخطر المحدق بأطفالنا حين يصبح سفهاء المجتمع في أعلى الهرم، وحين يصبح الدين سلعة يتاجر بها اللصوص والقتلة الذين مصيرهم أن يحولوا المجتمع إلى قرابين يتقربون بها إلى الله كما يعتقدون. ونفعل هذا من أجلنا ومن أجل مستقبل أطفالنا المهددين جميعا ومن أجل ما تبقى فينا من ضمير أو خجل.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى