مقالات مختارة

«بخيتة» السودانية

عبده وازن

نجحت الكاتبة الفرنسية فيرونيك أولمي في اختيار شخصية «بخيتة» السودانية، بطلة لروايتها التي حملت الاسم نفسه، فهذه الشخصية شبه المجهولة عربياً انتقلت من كونها «عبدة» بيعت مراراً في سوق النخاسة السوداني في أواخر القرن التاسع عشر، إلى مصاف القداسة بعدما أعلنها البابا جان بول الثاني قديسة في العام 2000. واستطاعت الرواية الجميلة هذه (دار البان ميشال) أن تنافس روايات فرنسية كثيرة في لوائح الجوائز هذا الموسم، وبعضها دار حول المحرقة اليهودية وأوشفيتز، وفازت بجائزة غونكور الشرق وجائزة «فناك» الشهيرة. ولئن غابت «بخيتة» عن الرواية العربية تماماً فهي حضرت حضوراً طفيفاً في الأدبيات المسيحية العربية، مع أنها شخصية روائية تراجيدية فريدة، تجمع بين القدر الشخصي وقدر العبودية أو الرق ثم الاستعمار أو الكولونيالية. ولعل شخصية «بخيتة» الغنية و «الإشكالية» تستحق فعلاً أن تكون بطلة في رواية عربية تتناول مرحلة نهايات القرن التاسع عشر في السودان وما اعتراها من وقائع رهيبة بخاصة أن السودان كانت حينذاك في عهدة الاستعمار.
لا يمكن من يقرأ الرواية إلا أن يقع في حب هذه الفتاة الصغيرة التي سماها تجار الرقيق في السودان «بخيتة»، أي صاحبة الحظ، بعدما ساقوها إلى أكشاك النخاسة في السابعة من عمرها. كانوا هاجموا قريتها الصغيرة في دارفور، فأحرقوا وهجّروا واقتادوا الفتيات ومنهن «بخيتة» وأختها إلى مأساة العبودية. فقدت فتاتنا جزءاً من ذاكرتها، نسيت اسمها واسم عائلتها لكنها لم تنس أختها التوأم التي ماتت خلال الخطف. ظلّت تتذكرها وتتذكر فتاة أخرى ربطت إليها بالسلاسل طوال الطريق التي اجتازتاها وفي السوق التي عرضتا فيها للبيع. انتقلت «بخيتة» من يد إلى يد، من عائلة إلى أخرى، من سيد طاغ إلى سيد طاغ، فاغتصبت وعذبت وعملت خادمة… أحد أسيادها كان جنرالاً في الجيش التركي، مارس عليها ساديته وسامها أشد ألوان العذاب. إلا أن قدرها أوقعها بين يدي القنصل الإيطالي في الخرطوم فحملها مع أسرته إلى البندقية وهناك فُتحت أمامها صفحة جديدة. لكنّ انتقالها، هي الفتاة السوداء، الإبنوسية السمرة، ذات الوجه البيضاوي والعينين اللوزيتين، لم يعنِ بتاتاً تخطيها حال العبودية، مشفوعة هنا في إيطاليا بالعنصرية. كان من الصعب على «بخيتة» أن تتحرّر من تاريخها الأليم ومن ذاكرة لونها الأسود في بيئة عنصرية. انتقلت الفتاة إلى عائلة إيطالية كخادمة وعاشت لديها حالاً مزدوجة، من ترحاب واضطهاد وسوء معاملة، على رغم ما أدّت من خدمات للعائلة التي «استخدمتها». لكنّ حظها «السعيد» قادها مرة للإقامة في أحد الأديار لتتعلم الدين على أن تعود لاحقاً إلى بيت مخدوميها. وعندما جاءت سيدتها إلى الدير بغية استعادتها واجهتها قائلة: «لا. لن أخرج من هنا. سأبقى هنا». وانطلاقاً من حياة الدير بدأت «بخيتة» مساراً جديداً، عُمّدت وانضمت إلى سلك الراهبات والفضل يرجع إلى راهبة تدعى «فابريتي» أحبتها ورعتها. وما لبثت أن تحرّرت من صفة العبودية بعدما برّأتها المحكمة قانونياً من هذه الصفة التي راففتها إلى إيطاليا. وما أن ثبّتت رجلاها في الدير حتى انطلقت في العمل الخيري ولا سيما رعاية الأطفال والأولاد الفقراء والمعدمين.
قد تكون سيرة «بخيتة» من أغرب السير الإنسانية. فتاة ولدت في إحدى قرى دارفور، تساق إلى العبودية في السابعة من عمرها، تنسى اسمها ولا تعلم إن كانت مسيحية أو مسلمة أو وثنية، تعاني ويلات الاستعباد والرقّ، تعذّب وتضطّهد، ثم تصبح قديسة، أول قديسة سودانية، بل أول قديسة سوداء في تاريخ الكنيسة الكاثولكية من خارج الشهادة. أصبح اسمها «جوزفين بخيتة» أو «الأم ماريتا» شعبياً أو «الأم السوداء الصغيرة». انتقمت «بخيتة» للعرق الأسود، انتقمت من العبودية والاستعمار، انتقمت للطفلة التي فقدت طفولتها باكراً وللفتاة التي عانت في إيطاليا نفسها التمييز العنصري، لروحها التي تعذبت ولجسدها الذي يحمل مئة وأربعين ندبة.
اختارت الكاتبة الفرنسية فيرونيك أولمي ما شاءت من سيرة «بخيتة» الطويلة والغنية (توفيت في الثامنة السبعين من عمرها) لتكتب روايتها الفريدة معتمدة لغة فائضة ومتموجة وذات إيقاع متماد. وكان مرجعها الرئيس كتاب «ستوريا ميرافيغليوزا» الذي تروي فيه «بخيتة» نفسها سيرتها إلى صديقة لها والذي صدر العام 1931 وأحدث ضجّة في إيطاليا. ماتت «بخيتة» في العام 1974 بعدما شهدت ويلات الحربين العالميتين والفاشية والنازية. ولعل ما قاله فيها البابا جان بول الثاني عند إعلانها قديسة هو خير ما يقال: «الله هو وحده القادر على منح الرجاء لضحايا أشكال العبودية، القديمة والجديدة».

______________________

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى