مقالات مختارة

الوطن والدولة أولا

محمد الهادي الدايري

نشأت الدول عندما وجدت سلطة سياسية تمتلك قوة تنفيذية تحكم وتضبط بمقاليد الأمور (القانون والنظام العام والدفاع عن حدود الدولة) لخدمة شعب يعيش على أرض معينة، وهذا هو تعريفها (أرض، شعب، سلطة).

ورغم الظروف الصعبة التى تمثلت أساسا فى شح الموارد البشرية والطبيعية، استطاع النظام الملكى فى ليبيا بعد الاستقلال فى عام 1951 أن يشرع فى بناء الدولة، معتمدا على العون الخارجى الذى لم ينحصر فقط فى دعم دول غربية كالمملكة المتحدة وأمريكا، بل تمتع تلاميذ وطلبة ليبيا بوجود أفواج عديدة من المدرسين، إضافة إلى رجال قضاء وأطباء ومهندسين أرسلهم نظام الرئيس الراحل جمال عبدالناصر لنصرة أشقائهم الليبيين. واغتنمت النخب السياسية والإدارية الفرص التى وفرها ظهور البترول فى الستينيات للتركيز على الرفع من مستويات التعليم والصحة والبنية التحتية فى بلد مترامى الأطراف، ناهيك عن وجود رجال دولة أكفاء ومخلصين كانوا فى مستوى التحديات التى طرحتها فيما بعد مرحلة دعم البناء المؤسسى.

ثم جاء الفاتح من سبتمبر فى عام 1969، فشكَّل ثورة بالمعنى الحقيقى للفظ عندما أنهى نظاما ملكيا واستبدله بنظام جمهورى، بينما مثلت بداياته فى «الجمهورية العربية الليبية» استمرارا لنهج وسياسات الدولة. إلا أن قائد الفاتح من سبتمبر اختار بعد إعلانه لملامح «النظرية العالمية الثالثة» فى خطاب زوارة فى عام 1973 المضى فى مسار آخر عارضه بعض رفاقه فى مجلس قيادة الثورة علنا، فيما فضل البعض الآخر الانسحاب بهدوء من صفوف المجلس ومسئولياته. أصر العقيد معمر القذافى، رحمه الله، على قيادة ليبيا نحو نظام جماهيرى تكون فيه «الثورة» المحرك الرئيسى لعجلة النظام. وابتعدت اللجان الشعبية التى أدارت «الجماهيرية العربية الليبية الشعبية الاشتراكية» اعتبارا من 2 مارس 1977 عن هياكل ومنطق وسلوكيات الدولة، وانحصرت الأخيرة فى قطاعات معينة، كالأمن السياسى والبترول والمصرف المركزى. كان الهم الأساسى للجان الثورية، الحزب الحاكم حينها، هو توجيه اللجان الشعبية، بل التواجد فيها كى لا تحيد عن المسار «الثورى». لكن الاهتمام الأكبر لقائد الثورة كان موجها للخارج، وتحديدا للعالم العربى وإفريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينية، كى يتم نشر رسالة «النظرية العلمية الثالثة» عن طريق لجان «ثورية» عالمية.

***

إلا أن هذا النشاط الملحوظ للنظام الجماهيرى خارج حدود البلاد كان قد اقترن بكبت للحريات العامة وبقمع لكل القوى الطلابية أو السياسية التى خرجت علنا وسرا لتعبر عن معارضتها لهذه الممارسات القمعية ولسياسات النظام الجماهيرى، ليتم كردود فعل على كل ذلك نصب أعواد المشانق للمعارضين حتى فى شهر رمضان الكريم، وشن عمليات اغتيال لمعارضين فى الخارج وصفوا بـ «الكلاب الضالة». ولم يتمكن النظام الجماهيرى «الثورى» من إيجاد حركة نهضوية تستثمر عوائد البترول فى مشاريع اقتصادية حيوية تخرج البلاد من مأزق الاقتصاد الريعى. المشروع الوحيد الذى يذكره الليبيون بحق للنظام الجماهيرى كان مشروع النهر الصناعى الذى عاد بفائدة كبيرة ووفر مياها صالحة للشرب لملايين الليبيين، فضلا عن مد مساحات زراعية مهمة بالمياه اللازمة التى تحتاجها. لكن جموعا كبيرة منهم اضطرت إلى اللجوء إلى دول عربية شقيقة، كمصر وتونس والأردن، بحثا عن خدمات صحية ملائمة لعلاج يستعصى على النظام الصحى فى الداخل تقديمها. كما عان أبناء «الجماهيرية» من تدنى مستوى التعليم واهتراء المبانى المدرسية وعدم قدرتها فى بعض المناطق على استيعاب الأعداد الكافية من التلاميذ والطلبة. أما مطارات ليبيا وطرقها فظلت فى الغالب فى أوضاع يرثى لها. ولا ننسى الحصار الدولى الذى دام سنوات طوال نتيجة لمغامرات غير محسوبة العواقب أدت إلى عزلة البلاد دوليا، بما فى ذلك دول الجوار العربى والإفريقى، كانت كثيرا ما استهجنت الدعم المقدم إلى منظمات إرهابية ومشاريع انقلابية تخريبية تسببت فى زعزعة أمن هذه الدول فى أكثر من مناسبة.

***

وإزاء كل ذلك، انفجرت انتفاضة 17 فبراير حاملة لآمال كبيرة فى الحرية والديمقراطية ودولة القانون والمؤسسات. وبالنظر لهذه الشعارات والمبادئ التى عبر عنها قادة حراك 2011، شهدت البلاد اصطفافا هائلا وراءهما من قطاعات عريضة فى الشعب الليبى. وخلقت بعض البدايات ارتياحا كبيرا، خاصة بعد تنظيم أول انتخابات حرة فى 2012، لكن هيمنة فصائل مسلحة متطرفة ارتدت عباءة «الثورة» لتختزلها فى مشاريع دموية داخل ليبيا وعبرت حدودها لتنال من أمن تونس والجزائر ومصر وسوريا، بعد تدريب الإرهابيين فى معسكرات فى شرق وغرب البلاد. بيد أن التهديد الأكبر كان لأمن وسلامة الليبيين الجسدية أنفسهم، فضلا عن اللجوء إلى السلاح لفرض أجندة سياسية معينة تخدم الإسلام السياسى. وتمكنت هذه القوى الإرهابية والمتطرفة أن تدعم «ثوريتها» بالتحالف مع جماعات إجرامية وجدت فى «الثورة» ضالتها من خلال تشكيلات وميليشيات مسلحة، اقترفت العديد من الجرائم من قتل وخطف وتعدى على أموال وحرمات مواطنين أبرياء. الصراع المسلح الذى دام منذ 2014 وحتى منتصف العام الماضى أدى إلى وجود حكومتين فى غرب وشرق البلاد وانقسام سياسى حاد استمر لغاية اليومين الماضيين.

***

موضوع إسقاط الدولة وإعادة بنائها كان على سبيل المثال جزءا من مشروع الثورتين الشيوعية فى روسيا فى عام 1917 والإيرانية عام 1979، فيما كانت الدولة غالبا غائبة بعد إعلان قيام «الجماهيرية». ولا يختلف الأمر فيما حدث فى ليبيا بعد 17 فبراير؛ حيث تم تغييب مشروع الدولة المدنية والديمقراطية وإعادة بناء وتشكيل الدولة على أسس جديدة، بل إن الخطير فيما حدث هو تحول ليبيا إلى دولة فاشلة غير قادرة على تقديم أبسط الخدمات كالكهرباء وتوفير السيولة ومواجهة جائحة كورونا التى تعصف بأرواح الآلاف من الليبيين هذه الأيام.

وبعد أن شهدت الأيام الأخيرة فى ليبيا نهاية التشظى المؤسسى، وبداية للم شمل الوطن الجريح، يقع الآن لزاما على كل الليبيين، بمختلف مشاربهم، أن يلتفوا حول الوطن الذى يئن من جراح جسيمة وشروخ عديدة فى نسيجه الاجتماعى ولُحمة أبنائه، مستذكرين ما قام به الآباء والأجداد بدءا من بطولات لإنقاذ وطنهم من براثن المستعمرين، ومرورا ببناء الدولة الواحدة والسير بها نحو مراحل متقدمة من النمو فى مجالات عدة فى خمسينيات وستينيات القرن الماضى.

الأولوية تكمن إذا فى توافق وطنى واصطفاف مجتمعى يتعلق بإطلاق مصالحة شاملة فى الأيام والأشهر القادمة تعالج مساوئ الحقبة الماضية وتنفتح على كل أبناء ليبيا، بدون استثناء، ليستعيدوا إمكانية العيش سويا، بعيدا عن احتكام إلى السلاح والقوة باسم «الثورة» عانينا منه على مدى الخمسين سنة التى مضت.

وهنا تأتى قضية إعادة بناء الدولة الوطنية والمدنية التى تكرس سيادة القانون وتستند على مؤسسات وحوكمة تعمل على الحفاظ على أمن وسلامة المواطنين وتصون حدود وأمن البلاد وتعطى لكل ذى حق حقه. هذه المسألة الجوهرية تشكل أولوية أخرى، لا تقل أهمية عن سابقتها، مع تقدير أننا سنأخذ فى إنجازها بعض الوقت. إلا أن ذلك يستدعى، أن يتوفر، ومرة أخرى، توافق وطنى حولها بين كل القوى السياسية والمجتمعية التى تسعى لخوض الانتخابات الرئاسية والتشريعية المقبلة. الاختلاف المقبول حينها ينحصر فقط حول مشروع كل فصيل أو تشكيل سياسى يقدمه للدفع بعجلة النمو والتطور المنشود.

الصندوق فى المستقبل هو إذا الحكم فى تقلد السلطة من قبل من يظفر بالفوز، ليبقى الوطن والدولة قبل ذلك وبعده، لجميع الليبيين على حد سواء، وفوق كل اعتبار.

المصدر
شورق نيوز

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى