مقالات مختارة

الميكافيلية الإيطالية والأزمة الليبية

د. جبريل العبيدي

قِطع بحرية إيطالية تتجه نحو المياه الإقليمية الليبية دون إذن من البرلمان الليبي، السلطة العليا في البلاد؛ مما يعطي الحق للجيش الليبي بالرد؛ فالتعاطي الإيطالي مع الأزمة الليبية تقلب من حالة الاعتدال إلى حالة الشيزوفرينيا السياسية؛ مما جعله في أغلب حالاته جزءاً من الأزمة لا الحل، فموقف إيطاليا تحكمت فيه عوامل كثيرة لا يمكن تفكيكها بعيداً عن المصالح النفطية في المستعمرة الإيطالية القديمة، فإيطاليا المستعمر التاريخي لليبيا الحديثة، كانت قد تخلت عن ليبيا مرتين، رغم إصرار إيطاليا على أنها الشاطئ الرابع لروما La Quarta Sponda،. الأولى كانت في الحرب العالمية الثانية، والثانية عندما تعرضت ليبيا لضربات حلف الناتو في عام 2011، رغم قبلات برلسكوني ليد القذافي، إلا أنها تخلت عن حليفها وشاركت في هذه الضربات، رغم بعض التصريحات الخجولة التي أطلقها برلسكوني لإيقاف الحرب في حينها.
إيطاليا وبعد حالة من العداء غير المعلن مع الجيش الليبي، وأيضاً بعد مغازلة قصيرة المدى للجيش بعد انتصاراته الأخيرة على ميليشيات الإسلام السياسي الإرهابية، سرعان ما انقلبت وأرسلت قطع أسطول إيطالية للمياه الإقليمية الليبية متذرعة باتفاقية وقّعها رئيس حكومة الوفاق غير الدستورية معهم من دون إذن البرلمان الليبي، وأبطلها القضاء الليبي لكونها موقّعة من غير ذي صفة، في إشارة للقضاء الليبي؛ كون المجلس الرئاسي والذي يتزعمه السراج، نتيجة لاتفاق الصخيرات الذي لا يزال خارج الإعلان الدستوري، ويتضمنه قانونياً ولم يمنح الثقة من البرلمان لممارسة مهامه.
إيطاليا بين الحين والآخر تتحسس شعرة معاوية التي لم تقطعها في العلن بعد تحالف مشبوه مع كتائب «البنيان المرصوص»، وهي مجموعة مسلحة غير عسكرية متحالفة مع حكومة السراج، وإن خاضت حرباً ضد تنظيم داعش في سرت، وخسرت الكثير من مقاتليها، لكنها حققت الانتصار بمساعدة ضربات أميركية عبر قوات «أفريكم»، إلا أنها قدمت الدعم اللوجيستي لها، بل وحتى العسكري بتوجيه ضربات ومشاركة جنود إيطاليين في معارك سرت وبناء قاعدة عسكرية، وإن كانت مغلفة بمستشفى عسكري ميداني تحرسه قوى إيطالية كبيرة، في انتهاك صريح للسيادة الليبية.
إيطاليا من عصر الفاشي بينيتو موسوليني وجنراله السفاح ردولف غرتسياني ومعتقلاته الرهيبة، والتي زج فيها بآلاف الليبيين، ليقتلهم الجوع والمرض في العراء، تحاصرهم أسلاك شائكة تمنع عنهم الماء والغذاء، تعتبر من أبشع الفظاعات التي مورست ضد الشعوب، قضى فيها أكثر من 150 ألفاً من سكان برقة، إلى مشروع بيفن سفورزا مشروع الوصاية الذي قدمه وزير خارجية إيطاليا كارلو سفورزا بالاتفاق مع إرنست بيفن وزير خارجية بريطانيا، توضع بموجبه أقاليم ليبيا الثلاثة تحت وصاية دولية، تتولى بريطانيا الوصاية على برقة، وتتولى إيطاليا بموجبها إدارة طرابلس، أما فرنسا فلها إدارة فزان؛ الأمر الذي يتكرر اليوم بتدخل الدول الثلاث رغم مرور أكثر من 65 عاماً على مؤامرة بيفن سفورزا.
محطات إيطاليا مع ليبيا لا تنتهي عند زمن سمسار الكرة والإعلام برلسكوني وتقبيله يد القذافي في سابقة في البرتوكول السياسي يقوم بها زعيم دولة غربية عرف بغروره وثرائه الفاحش، لتفضي إلى اتفاقية «تعويض» «وجبر» ضرر على الحرب الإيطالية واحتلال ليبيا، وإن كانت منقوصة ودون مستوى حجم الضرر؛ لكونها اقتصرت على اعتذار عبر خطاب ومساعدات بقيمة مليار دينار تشمل إنشاء طريق ساحلية وبناء مشفى.
إيطاليا تحالفت مع بعض الميليشيات المسيطرة على حقول الغاز في الغرب الليبي؛ لكون إيطاليا شريكاً مع ليبيا في إنتاج هذه الحقول في مليته، رغم وجود مخاوف حقيقية من تحالفات تقيمها جماعة الإخوان مع الجزائري بلمختار زعيم «الموقعون بالدم» فرع القاعدة في شمال أفريقيا، ومحاولاته السيطرة على منابع النفط لتمويل تنظيم القاعدة الذي أصابته الشيخوخة، وشح مصادر التمويل وانشقاق عناصره ومبايعة البغدادي.
إيطاليا تحكمها النزعة الميكافيلية، لتبرير براغماتية توجهاتها وتقلب هواها السياسي، من خلال تاريخ طويل بدأ من أطماع إيطاليا في ليبيا كشاطئ رابع حتى ركوع برلسكوني في خيمة القذافي، لا يمكن التعويل على إيطاليا في ظل وجود تنافس بريطاني – فرنسي على «الكعكة» الليبية رغم أن إيطاليا تحكمها مصالح أمن حدودي مع ليبيا، وبخاصة أن شواطئ ليبيا لا تبعد سوى 300 ميل عن شواطئ إيطاليا، حيث تعتبر قبلة الجياع والفارين من جحيم الفقر والجوع والمرض والحروب في أفريقيا؛ مما يتسبب في فوضى في البلدين.
أخطاء مرحلة طويلة من التعاطي المافيوي والشيزوفرينيا السياسية الإيطالية مع الأزمة الليبية، ضمن حزمة من التنافس والتنازع الخارجي على منابع النفط والغاز الليبية.

____________________________

صحيفة الشرق الأوسط

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى