اهم الاخباركتَـــــاب الموقع

الملك يمشي تائهاً

جميلة الميهوب

علاقتهما كانت متميزة جداً. علاقة صداقة واضحة وقوية. هي أكثر ما يلفت انتباهي بين عمي الملك وأبي الأمير، كما كنت أراها. رجلان عصاميان. لا أعرف عن مرحلة طفولتهما، صباهما وشبابهما إلا القليل. ينتميان لإحدى القبائل الشريفة، كما يصنفها الليبيون (الطيايرة). مكان هذه القبيلة ليس بالبعيد عن الشاطئ.

الاهتمام بالهندام. الفكر المستنير. احترام المرأة، تبجيلها وتقديرها جزء لا يتجزأ من ثقافة تلك القبيلة. الاهتمام بالزوجات. إغداق المجوهرات والهدايا عليهن سمة غالبة على رجال تلك القبيلة أيضا.

جدّي رجل بسيط، حازم، عفيف النفس. هذا ما سمعت الناس يرددونه. ما زالت عالقة بذهني صورة جدي الذي أحبه. طيب القلب، نحيف، يميل إلى القِصر، أبيض البشرة بلحية بيضاء. يرتدي سورية بيضاء طويلة ويضع نظارة على عينيه. مبتسم دائما لم أر من حزمه الذي يتحدثون عنه إلا الوداعة والحب. جدتي الطويلة البيضاء ذات الشعر الكستنائي الناعم والعينين الكبيرتين الملونتين أصيبت في كبرها، عندما عرفتها، بمرض (شلل الرعاش). كانت نهراً من الطيبة والحنان. أحب جدي وجدتي كثيراً. ذكراهما طيبة وجميلة في نفسي.

أبي كان أسيراً لدى المستعمر الإيطالي في فترة من فترات عمره، ربما في صباه. فتحت عيني على أبي وعمي رجلين متميزين بالشخصية والثقافة والتفتح والتحرر. بالحضور الطاغي وأناقة الملوك والأمراء. ارتداء البدلة وربطة العنق جزء لا يتجزأ من شخصيتيهما. كانا يتقنان اللغتين الإنجليزية والإيطالية قراءة وكتابة، بالإضافة إلى لغتهما الأساسية العربية. أبي كان يتقن اللغة الأمازيغية أيضا. اشتغل كمترجم قانوني في فترة من فترات عمره.

*

فصل الصيف. القاهرة. المساء. المكان (عش البلبل) أم (كازينو النيل)؟ حقيقة، لا أذكر. أذكر الرواد: عائلات، شباب، عشاق. عائلتنا وعائلة عمي جالسين إلى طاولة كبيرة. أبي وعمي في ركن الطاولة يتحدثان باللغة الإنجليزية، كعادتهما عندما يتحدثان في موضوع خاص. أنا وابنة عمي طفلتان نتسلى بأخذ حبّات الزيتون وقطع “الجبن” من الصحون.

أمي كانت دائما تحدثنا عن معاناة زوجة عمي الرجل الوسيم الأنيق. الزوجة التي عانت من جاذبيته وشخصيته وأناقته الساحرة. حدثتنا عن الخيّاطة الإيطالية الفاتنة التي كانت تأتي لأمي وزوجته لتفصيل ملابسهم عندما كانوا يقطنون نفس المنزل في بداية حياتهم، وقبل أن ينتهي المطاف ليكون عمي مدير شركة نفط أمريكية، وأبي رئيس أحد أقسام شركة نفط ليبية. عشقت تلك الخيّاطة عمّي وأصبحت تختلق الأعذار للقدوم إليهم يومياً. حدثتنا عن رفض زوجة عمي السفر للبنان مرة أخرى بعد أن رافقته مرة من المرات. حدثتنا وحدثتنا وحدثتنا… وعايشنا الكثير من تلك الأحاديث. لم تتطرق أمي إلى معاناتها اليومية التي شهدناها على مر السنين في علاقتها بأبي، ولنفس السبب. كانت تتجاهل ذلك متعمدة.

أكثر ما يلفت انتباهي هو العلاقة بين أبي وعمي. إحساسي ويقيني بأنهما يتشاركان معظم الذكريات إن لم يكن كلها، ليس فقط كأخوين وإنما كصديقين. وأكثر ما يثير إعجابي تشاركهما في ذكريات غامضة لا أعلم عنها شيئاً.

تقاعد كل من أبي وعمي.

يوم الجمعة يفيق بوي زي العادة، الصبح باكراً، يكون فرحان، مليان حيوية، في عيونه بريق مميز. يلبس بدلته العربية وينتظر. يطق “الكنشيلو” وينفتح. ينهض أبي ويسرع لاستقبال شقيقه الأصغر، عمّي (علي) الذي يكون في منتصف الجنان. يصافحه بشوق وهو يقول: علي، علي، أهلاً، أهلاً، آنستنا، آنستنا! ويمسك بيد أخيه إلى أن يصل مكانهما المعتاد داخل البيت. أثناء جلوسهما وشربهما القهوة يتحدثان في أمور حميمة يغلب عليها طابع الأسرة والأخوة. بعد ذلك ينطلقان بسيارة واحدة إلى مسقط رأسيهما صرمان وهما في قمة السعادة والفرح. يرجعان مساء إلى بيتنا وينطلق عمي إلى بيته في طرابلس.

يتكرر هذا كل يوم جمعة.

*

دخلت الصالون. سحابة من الحزن تعلو المكان. صمت مهيب. صمت الموت. التابوت في منتصف الصالون. الملك المهيب يجلس وحيدا هذه المرة. منكسا رأسه، شابكا يديه يبكي. بمرارة يبكي.

واظب عمي على زيارتنا صباح كل جمعة. يجلس عمي في نفس المكان. يشرب قهوته، ودموعه السخية تغطي وجهه. في أحيان كثيرة لا يتمالك نفسه. يشربها وهو يبكي، ثم ينطلق إلى صرمان وحيداً.

لم يتأثر أحد بموت أبي كما تأثر عمي. ذلك الرجل الطويل، العريض، المهيب، أخذ يذبل ويذبل بسرعة فائقة. ذبل وحزن قلب عمي. ذبلت روحه. ذبلت ذكرياته. تراجعت ذاكرة عمي شيئا فشيئا حتى فقدها بالكامل. كأنه لا يرغب في أن تكون له حياة وذكريات بلا أخيه، بلا أبي. لم يبق من عمي إلا جسده المهيب. حتى مشيته تغيرت. لم يعد واثق الخطوة يمشي ملكا. الملك يمشي تائهاً.

*

كنت في زيارة لبيت عمي. خرج من غرفته ممسكا بيد ابنته. ساعدته بالجلوس على كرسي من كراسي الطاولة التي كنت أجلس إليها. وجه عمي بريء كوجه طفل حديث الولادة يبحث عن وجه أمه الذي لم يرَه بعد. مددت لعمي يدي لأصافحه. أخذت ابنة عمي يده ووضعتها في يدي وهي تقول:

ـ هده جميلة بنت خوك بلقاسم، بوي. هذه جميلة بنت عمي بلقاسم، عرفتها بوي؟

لم تصدر عنه أي ردة فعل، كأنه يرفض أن يتعرف على العالم في غياب أخيه. ربتت على يديه وهي تقول:

ـ هيا بوي هيا تعالَى. هيا تعالَى نطلعوا الجنان.

ساعدته إبنته ليضع يديه على كتفيها وهي تدير له ظهرها. سارت أمامه واضعة يديها على يديه. كانت ابنة عمي تلف في الجنان وتغني.

تلف وتغني. تغني، تغني..

عمي يتبعها شارداً، ضائعاً، تائهاً. كان يبحث عن شيء ما.

كانت آخر مرة رأيت فيها عمي.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى