حياة

المكان في الرواية.. عنصر جذب وبدونه يفقد السرد رؤيته الفنية

خلود الفلاح – 218

لا شك أن المكان هو العنصر الرئيسي في العمل الأدبي السردي.إضافة إلى أنه القاعدة التي يستند عليها باقي عناصر العمل كالزمن والأحداث والشخوص الرئيسية والثانوية. ويقدم المكان في الرواية بصورتين: فإما أن يكون حقيقيا بكافة تفاصيله، وإما أن يكون متخيلا.

في هذه المساحة وجهنا السؤال إلى كُتاب ونقاد حول: هل المكان في الكتابة الروائية تقوم عليه الأحداث وتتشابك؟

المكان كائن حي

يرى الروائي الفلسطيني محمود شقير أنه لولا المكان لكانت الكتابة معلقة في الفراغ. وبالطبع؛ هناك مكان مشخّص معروف في الرواية، وهناك مكان رمزي لكنه يدلّ بشكل أو بآخر على مكان حقيقي. ومثلما أن المكان ضروري للنص الروائي، فهو ضروري كذلك للإنسان؛ من دون المكان لن نتمكن من العيش، فالمكان ملازم للإنسان من لحظة ولادته إلى لحظة موته.

ويلفت شقير، إلى أنالأمكنة تتنوّع وتتعدّد بحسب الظروف وتقلّبات الأحوال؛ فمن يعش لاجئًا في مخيّم جرّاء قسوة الظروف السياسيّة فإنه يعيش حياة بائسة في مشقة وضنك، ومن يُهدم بيته من الفلسطينيّين على أيدي سلطات الاحتلال الإسرائيلي فإنّ حياته تشهد انقلابًا ضاريًا غير معقول.

وعلى جانب آخرـ يتابع شقيرـوقد جرّبت بشكل فعلي الابتعاد عن المكان الأليف جرّاء اعتقالي في عام 1969، واعتقالي مرّة أخرى في عام 1974، جرّبت السجن في الحالتين وهو بالمناسبة مكان مقيت، يحجز حرية الإنسان، ويحرمه من الفضاء الواسع المتاح لكل البشر أينما كانوا. ولطالما تذكّرت بيتي وأنا قابع في السجن، وبعد السجن قامت سلطات الاحتلال بإبعادي إلى خارج الوطن في عام 1975، هذا يعني حرماني من المكان الأليف ومن بيت الطفولة الذي وصفه غاستونباشلار، البيت الذي يحن إليه الكائن البشري ويتوق إلى العودة إليه حين يبتعد عنه، فكأنه الرحم الذي يحتضن الجنين ويمنحه الحياة، ويضيف:” لم أعد إلى مكاني الأول إلا بعد ثمانية عشر عامًا، ويمكن القول إنّني لم أشهد في تلك الأعوام أيّ استقرار؛ كنت أتنقّل من مكان إلى آخر ومن مدينة إلى أخرى بعيدًا من الوطن، وكنت أشعر كما لو أنّني معلّق بين الأرض والسماء”.

في المقابل، يقول الروائي التونسي محمد عيسى المؤدب:الرواية الحديثة أضحت أكثر تدقيقا في التعامل مع المكان والتّفاعل معه. والكتابة بوصفها بحثًا ومعايشةً وتخييلًا تنشئ المعمار الروائي وتقدم أمكنتها في مكوّناتها الكبرى وفي زواياها المنسية وأزقّتها ومبانيها وناسها وليس العكس، بمعنى أنّ المكان كجغرافيا محايدة أو كهندسة صامتة ليس محورًا ينشغل به الكاتب باعتبار أن المكان كائن حي له أثر كبير في الذّاكرة وفي الواقع والمتخيّل أيضا. ومن هذا المنطلق يستجيب المكان إلى الهندسة الفنيّة أكثر من استجابته للهندسة المعمارية.

وتحدث الناقد الليبي عبد الحكيم المالكي عن المكان والزمان باعتبارهما مادة لتأثيث الجملة السردية، وهو ما يتحقق عبر تقنية حديثة نجدها تحضر في أغلب الجمل السردية في سرود التجارب العربية المميزة، فنجد حضور ظروف الزمان والمكان وكل المؤشرات الدالة على حضور المكان أو أي من مكوناته في النص مع الزمان في أي صورة من صوره العليا أو الدنيا، فيصبح السرد ثريا مكتنزا كما يسميه البعض وذلك بحكم حضور إطاري الزمان والمكان لسند بناء المعنى ورسم الصورة السردية مع الشخصية والحدث.

وأفادت ناتالي الخوري غريب ـ وهي أكاديمية وروائية لبنانية ـ أيّ مكان في هذا العالم ينتقل إلى السكن في الرواية، ننظر إليه كاللون في اللوحة، يظهر بحسب تمازجه مع الألوان الأخرى في لعبة الخطوط والظلال ومزاج الرسام ورؤيته إلى العالم، كذلك موقع النغمة في السلم الموسيقي وتناغمها في خفّة راقصة بين ما قبلها وما بعدها، وإطالة الإقامة فيها أو المرور عليها سريعا بحسب الموسيقي وحالته الوجدانية.

 

وتحدثت غريب عن أن المكان له إحالة مرجعية واقعيّة اجتماعية- سياسية، ثابتة خارج الرواية، ما يجعله ضمنها مرتبطا بالأشياء والشخصيات والأحداث، وهو ما يعرف بعلم السرد ب(سطوة الدلالة المكانية)، ومن ثمّ تدرج إلى ما يعرف اليوم باللامكان، الذي أنتجته الحداثة المفرطة كما عرّفه عالم الأنتروبولوجيا الفرنسي مارك أوجيه في كتابه (اللاأمكنة)، أي فضاءات السرعة والعبور المؤقت المطار أو الطائرة أو الفندق…إذ يعتبرها لا أمكنة لأن المكان في معناه الأنتروبولوجي ليس مكانا إلا بما ينتسج فيه ويثبت من رموز ومعان عبر المسارات والعلاقات والأفعال والأحاديث، ما ينتج وعيا فرديا جديدا لاختبار تجارب العزلة. وهذا ما يستخدم في الروايات المعاصرة بطريقة مغايرة عن استخدام المكان كما اعتدنا على قراءته في الرواية التقليدية، بسماتها المعروفة حيث ترتبط هوية البطل –الشخصية المحورية- بالمكان، المكان الذي يعطيه هويّته وانتماءه، أو الرواية التاريخية، حيث تظهر الوظيفة المكانية توثيقية بارتباطها بالزمان ووخلفيّة للأحداث المرافقة. كذلك في الروايات، التي نجد فيها ثبات المكان وتماهي الأزمنة، -روايات تيار الوعي -أي بقعة جغرافية واحدة وكيفية تتالي العصور والحقبات بأحداثها المفصلية، حيث يصبح المكان بالحيّز البيئي الواقعي، وتاليا ارتباط برؤية الكاتب إليه، بعدا أو قربا، هو ما يحدّد دوره.

تجربة الكتابة

من جانبه، تحدث الروائي محمد عيسى المؤدب عن تجربتهفي رواية (حمّام الذّهب)، وحرصه على انتقاء الفضاءات جامعا في ذلك بين النّبش عن التاريخ ومعايشة الواقع والتقاط نقاط ضوء يمكن أن تثير التّخييل.

ويضيف المؤدب،”استجابتالأمكنة في الرواية وخاصة مدينة تونس العتيقة إلى بنية الحكاية بالأساس وخاصة في ما يتعلق ببناء شخصيّتي سعد ولارا، على ذلك الأساس حضرت الأمكنة في تناقضاتها وتعبيراتها النّفسية والفكرية المحبطة والمتمردة. كما استجابت المدينة الروائية للتحولات العميقة التي عرفها المجتمع التونسي في السنوات الأخيرة ( أجواء الحياة في الأحياء الشّعبية، الجريمة، تجارة المخدرات، الحفر على الكنوز وتهريب الآثار، البطالة والهشاشة النفسية للمواطن التّونسي) وهي أجواء معبرة عن مختلف التناقضات التي اتصفت بها شخصية سعد، فكان من الضّروري أن تحضر تلك الأمكنة بعينها لتجسم مناخات الشخصيّة لا أن تحتفي بالمكان فحسب”.

وعلى جانب آخر ـ يتابع المؤدب ـفالتحولات التي عرفتها مدينة تونس تحولات عميقة أملتها عوامل سياسية واجتماعية واقتصادية، وإن كان حضور الأنثروبولوجي واضحا في سيرورة أحداث الرواية من حيث كشف طبائع الإنسان وسلوكه وتغير وعيه في الأحداث الكبرى التي عاشتها مدينة تونس مثل الحرب العالمية الثانية وحرب الأيام الستة فإن مدينة الرواية انتصرت للقضية المركز التي اشتغلت عليها وهي أن مدينة تونس بشقيها التراثي والحداثي مدينة العمق الإنساني، فلا يمكن للموجات الفكرية المتطرفة والطارئة أن تضرب ذلك العمق الفريد.

ويشير الناقد عبد الحكيم المالكي إلى أنه لا يمكن فهم أي عنصر من عناصر الرواية معزولا دون غيره من العناصر، ودون فهم العلاقة التي يصنعها ذلك العنصر مع باقي العناصر

في الرواية. من خلال هذا المدخل يمكننا تصور حقيقة حضور المكان ضمن العمل الروائي، فالمكان عنصر من عناصر بناء الحكاية مع الأحداث والأزمنة والشخصيات، وهو ضمن بناء الراوي للمعنى وقيامه بجعل سرده مميزا، يصبح أداة مهمة لرفع دراما السرد، ولجعل السرد في حدوده الجمالية القصوى.

وعن تجربته يقول الروائي محمود شقير:للمكان حيّز كبير في قصصي ورواياتي، وحين تعلمين أن مكاني الأوّل الذي أظل مشدودًا إليه مهما ابتعدت هو مدينة القدس التي تتعرض الآن للتهويد وللأسرلة فإنك ستدركين لماذا أهتمّ بالمكان، ولماذا أسعى دومًا إلى تثبيت الهوية الأصلية لهذا المكان بصفته مكانًا فلسطينيًّا أصيلًا بثقافة عربية فلسطينية إسلامية مسيحية.

في الوقت نفسه، وكما بدا في كتاباتي المتعدّدة فإنّني لم أتنكّر لأمكنة المنفى التي احتضنتني ولم تبخل عليّ بالإقامة وبالعمل، وبالبقاء فيها معزّزًا مكرّمًا إلى حين العودة إلى الوطن. تلك الأمكنة تعاطيت معها في نصوصي بكلّ الحب والامتنان.

شخصيات العمل

وتشير الروائية ناتالي الخوري غريب إلى المكانفي الرواية الحديثة، وتلفت غريبإلى أن المكان كالأنا في علائقها بالآخرين وتاليا بالعالم، تختلف أيضًأ من روائي الى آخر، بحسب سؤال العالم الروائي عنده، هاجسه، ماذا يريد من الرواية.

وتضيف: “في روايات ما بعد الحداثة، في تفتت نسيجها، المتفلّت من نمطية السرد، نجد أن للأمكنة بعدا آخر ووظيفة أخرى، إذ قد يغدو المكان شخصية تخطّت موقعها كحيز في فضاء ما، وصارت رمزا إنسانيًّا كونيًّا، يحملها الإنسان معه وليس العكس. أو ربما لشعور الإنسان بالانتماء الكوني، يتعالى عن الجغرافيا وتقسيماتها، ليصبح المكان الذي يعترف به هو قلب الإنسان، وروح الكون، وهذا ما نجده أيضًا في الروايات الصوفية”.

وتري غريب، إذا كان غالب هلسا قد ميّز بين ثلاثة أنواع من الأمكنة، المكان المجازي (محض ساحة لوقوع الأحداث) والمكان الهندسي(تصوير المكان بدقة ونقل تفصيله من دون العيش فيه) والمكان كتجربة تحمل معاناة الشخصيات، وتمّة الكثير أيضًا من التصنيفات المكانية بحسب سطوتها الدلالية، يبقى أن نقول بأن المكان هو الجسر الحسي الأول الذي يجسد أفكار الكاتب الذهنية لتنتقل إلى ذهن المتلقّي بقاعدة مشتركة، وهنا تكمن أهميته، وتفرد الروائي بفنية نسج العلائق بين المكان وتورط الإنسان فيه، وجدانيا وكيانيا وتعلّقًا وتحررا.

واستطرد الروائي محمد عيسى المؤدب”جمعت مدينة تونس في رواية (حمّام الذّهب) بين كونها مدينة الجغرافيا، أثّرت في ذاكرتنا ولا تزال تؤثر في أيامنا معايشة وتخييلًا وانتظارًا لما أصله ابن خلدون وأسسه الطّاهر الحداد وغيرهما من التّنويريين وبين كونها فضاءً روائيّا هجست بالكثير من الأسئلة العميقة في علاقة الثقافات والأديان ببعضها البعض وفي مستقبل هذه المدينة الحضاري والإنساني بالأساس”.

ويعتبر المؤدب،أن المكان ومحوريته له أهمية في الكتابة الروائية الحديثة، فلم يعد ذلك الوعاء الجامد الذي يوصف بشكل طوبوغرافي سطحي وسريع وإنما هو مُساهم في نمو السرد وهو متحول ومنسجم مع تحول الشخصيات وتطور الأفعال والأحوال. لذلك تتأكد قيمة المكان، حقيقةً ورمزًا، في تشبيك الأحداث وإخراجها من الرتابة والملل.

وبحسب الناقد عبد الحكيم المالكي،يدخل المكان في علاقة مع الرؤية عن طريق الوصف المميز المعبر عن قلق أو سعادة الشخصيات بشكل غير مباشر، فيكون أداة للراوي ليطرح عبر صورة المكان وضعا ما للشخصيات، فيمكن عن طريق تصوير المكان إبراز القلق أو الخوف أو الألم أو التعاسة أو تصوير السعادة والفرح وغيرها من المشاعر التي تعيشها شخصيات الرواية بشكل غير مباشر، كما يمكن عن طريق تصوير المكان أن نتابع شعور الشخصية تجاه المكان مثل كونه مكانا أليفا أو مكان معاديا وهكذا، فالمكان بهذا الشكل أداة للتعبير عن المعنى وعن القيم التي يضمها النص وعن تشابك العلاقات بين الشخصيات، كما يصبح مادة لتلوين الأحداث بوعي الشخصيات.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى