اهم الاخبارمقالات مختارة

الكريك

سالم الهمالي

عند العاشرة والنصف ليلًا؛ وصلت الهاتف رسالة مقتضبة وغير مشفرة تعلن إلغاء رحلة طيران شركة الخطوط الأفريقية
المبرمجة في اليوم التالي، وفعل خيرًا من تلقى الرسالة أن كتمها. مشقة السفر شيء معروف منذ الأزل مهما كانت ظروفه ووسيلته، وتضاعفت مرات متعددة في زمن الكورونا، فيكفيني حينها التوجس من نتيجة اختبارات تحليل (البي سي آر)، وما قد يفاجئني به من ظهور آثار الشفرة الجينية له في حلقي أو أنفي، ليصبح كل ما خططت له ملغيا بدون إنذار سابق أو لاحق.

في مطار استانبول لامست عجلات الطائرة الضخمة مدرج المطار بسلاسة، أنهت بذلك الثلث الأول من رحلتي الطويلة إلى مسقط رأسي الذي غبت عنه لأطول مدة – قرابة العامين – إثر إجراءات

انتشار وباء كورونا وإكراهاتها. استغرقت الطائرة زمنا ليس بالقليل وهي تقطع مدارج المطار الضخم حتى وصلت نهاية رحلتها وأدخلت رأسها في قمع الممر إلى صالات المطار وردهاته. مفارقة كبيرة، إذ غادرت لندن وأجواء المطار كئيبة تفوح منها الكورونا في كل مكان، بعض صالاته لم أرَ فيها حتى نافخ نار!!… أما في استانبول فالهرج والمرج تراه وتسمعه أينما شيعت عينك أو كسرت أذنك، أناس من مختلف أرجاء المعمورة، يجوبون ممرات المطار ويتجولون في أسواقه العامرة ومطاعمه ومقاهيه التي تفوح منها الأطعمة اللذيذة والقهوة المعطرة.

نظرت إلى لوحة الإعلانات، أكثر من (١٥٠) رحلة مجدولة إلى كافة الاتجاهات (بلدان ومدن وعواصم)، من تبريز إلى لوس أنجلوس مرورا بطشقند ودلهي، ولا تنتهي في سدني ولا حتى فانكوفر … حتى تهيأ لي أنني فعلا في مركز العالم.

مستوى الخدمات في المطار عال جدًا، خدمات الإنترنت مجانية لمدة ساعة تواصلت فيها مع الفريق الذي يتابع رحلتي الشاقة، لا يحتاج الأمر أكثر من تمرير جواز سفرك على آلات في ردهات
المطار تخرج منها ورقة فيها “كود”، أرقنه في لوحة المفاتيح لتظهر بعدها إشارة النت في لوحة الهاتف، وطولك وطول عصاتك!

حظي – حتى تلك اللحظة – يفلق الصخر، ركبت الطائرة وأقلعت فعلا قبل الموعد من لندن، وهذا أيضا ما حدث مع الأجنحة الليبية حتى أوصلتنا مطار طرابلس بسلامة الله … وهنا أشيد بالاستقبال وخدمات الجوازات (شك شلبك) وجوازك في يدك وإلى صالة … وهنا أقفز إلى الخبر الذي بدأت به هذه الخاطرة، حين أبلغني من يستقبلني أن الطائرة (طرابلس – سبها) … بح!!

حمدت الله كثيرا على سلامة الوصول لأرض الوطن، وانطلقنا في رحلة برية إلى جبال غريان الأشم، حيث قدمت واجب العزاء لأحبابنا فيمن توفوا بالكورونا وغيرها مِن الابتلاءات، لنركب بعدها
السيارة قاصدين الجنوب …

تنشقت رائحة البنزين في السيارة، خمنت أن (بوعشرين) يرقد في شنطتها الخلفية كبرميل البارود ونحن فوقه ننتظر في قضاء الله، ففي عين المكان قضت عائلة كاملة بعد أن اشتعلت النار في
البرميل ثم السيارة ومن فيها في العام الماضي. هنا ينفصل العقل بقرار اختياري وتسلم بالحال الذي أنت فيه، “فما يزرك على المر إلا ما أمر منه”.

وضعت ماعون مليء بالكرموس البعلي في حجري، وحدة بعد وحدة، ومن معي يلخصون ما غاب عني خلال غيابي حتى وصلنا إلى الشويرف.

استرحنا للصلاة وتشحيط العروق بعد أن تيبست في صندوق السيارة، حمدت الله كثيرا لرؤية هذا العدد الكبير ممن يتوقفون للصلاة، فما يكاد المسجد الصغير بالاستراحة أن يمتلئ وتقضى الصلاة حتى يخرج من فيه ليمتلأ من جديد … الشويرف ظهرت جميلة، ضجيج الحياة في استراحاتهم وأغاني بوعبعاب والمرزكاوي من كل ناحية.

لم نلتفت إلى مجموعات الأفارقة الذين يبيعون البنزين، حظنا ذلك اليوم كان لا شك (من السماء)، في “بو الغرب” وجدنا محطة البنزين مفتوحة والطابور فيه أقل من خمس سيارات … صدق أو لا تصدق … امتلأ خزان الوقود، وخمنت أن أفتح الشنطة الخلفية وانتزع منها نابض المتفجر و”احدفه” على طول يدي، لكن عدلت عن الفكرة، فأهل الجنوب أدرى بمعاناتهم!!

بعد الشويرف تغير شكل الطريق، بدأت تظهر لنا امتعاضا وتبرما في وجهها، تشققات وانكسارات، بعضها يمكن أن تدفن فيه جثة إنسان بالغ، وصوت ارتطام السيارة بتلك المطبات تحسه في كل فقرة من عمودك الفقري، بل كل ضلع وعظم، كلها تطقطق، حتى أحيانا تشعر وكأن عظام السيارة سينفصل بعضها عن الآخر … يا إلهي! … طوال ذلك الوقت وأنا أتخيل حالة النابض وبرميل
البارود في شنطة السيارة!

ارتحت عندما تذكرت قولا يتردد كثيرا إن من يموت محترقا بالنار يدخل الجنة، لا أعرف هل هو قول صحيح أم لا، لكن في تلك اللحظات بدا لي أنه أمر جيد، على الأقل فيها الجنة، حتى لو أن الإنسان العاقل لا يمكن أن يتمنى الموت بهذه الطريقة لأي إنسان على وجه الأرض.

أحصيت أكثر من (٥٠) شاحنة معبأة بالخرطان والتبن متجهة للشمال، واحدة بعد الأخرى تحمل الخير، وأيضا أكثر من (٢٠) في الاتجاه الآخر تحمل البنزين، أمامها سيارة شرطة عليها شيء يشبه
السلاح، لا أجزم لأنه مغطى بقيطون، ووراءها كذلك. سألت نفسي مرة أخرى:

هالخير كله متجه للجنوب، وأنا ومن معي نجلس على برميل بارود؟

ما إن تظهر في الأفق البعيد ملامح بيوت (قيرة) حتى نستبشر، عدا عن أنها بيوت كرم وشهامة، فهي العلامة الدالة بلا أدنى شك على أنك وصلت إلى الجنوب وأصبحت على مشارف وادي الشاطئ ومدينة براك … وفي أفضل طريق في كل الجنوب الليبي بين براك وتمنهنت قالت السيارة: هذا وين
بوي باعني!

طقطقطقطقططططططط …

قال السائق: قومه!!

بمهارة فائقة سايسها حتى هدأت وطاب خاطرها بالركون إلى جانب الطريق، فتحت الباب لأرى حالة العجلة الخلفية، وإذ بها صارت فتفات مهشمة ورائحة العجل المحترق تعبق … يا لطيف

هي نفس العجلة التي فوقها يرقد برميل البارود!

حاولوا فك العجلة، لكن “الكريك” حرن، ولم تفلح كل جهودهم في إنعاشه … بدؤوا في التأشير

للمركبات فِي الاتجاهين ، بعضها يأخد أقصى الطريق المقابل مبتعدا لا ينوي التوقف، والبعض يخزر ليأخذ بعض اللقطات التي سيبني عليها قصة خيالية سيرويها عند وصوله، أما “اللبوات” التي مرت بسرعة البرق فسلاما قولا من رب رحيم!!

لا أذكر بالتحديد، ربما عشر دقائق أو أكثر بقليل توقفت تكتك معبأة ببضاعة، وتطوع بإنزال كل حمولتها لإخراج الكريك ليعطيه لنا، إلا أن من معي شكروه على فعله وأكدوا له أنه وبإذن الله سيأتي
فاعل خير عن قريب …

بضع دقائق مر خلالها عدد كبير من السيارات، منهم من أشاح بوجهه ناحية زلّاف، حتى يبدو وكأنه لم ير شيء… حتى أتى فرج من الله، توقفت سيارة وقدموا الكريك، لحظات والعجلة تغيرت، شكروهم وتعرفوا عليهم … عواته

انطلقنا فنحن الآن على مشارف تمنهنت … لأدخل البيت، وأمي بسبحتها لا تكاد تصدق ما ترى!! … الحمد لله رب العالمين.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى