اهم الاخباركتَـــــاب الموقع

الفونشة.. يا نغما في خاطري

سالم العوكلي

عندما كنت (كاوبوي) صغيرا أرعى الأبقار في شعاب الجبل الأخضر بداية السبعينيات، وتحصلت على آلة تسجيل تعمل بالبطاريات، كانت أغاني الفونشة تصاحبني في تلك الوهاد وهي تقض صمت الخلاء وتملأ خيالات الصبا بأجمل لحظات الحب وأقساها .

في تلك الفترة اشتهرت سيارة يابانية صغيرة باسم “الفونشة” وهي من نوع تويوتا كارينا التي كانت تملك المطربة الفونشة إحداها، تتنقل بها في شوارع بنغازي وبين أحيائها رفقة الدرباكة وزمارها الأعمى لإحياء الأعراس التي لا تكتمل إلا بحضور الفنانة الشعبية المرحة ذات الصوت الخنوثي، خديجة الكاديكي ، التي سماها جمهورها :الوردة الليبية، واشتهرت باسم الفونشة الذي ورثته عن أمها “السيدة حواء الورفلي ( الفونشة )” بينما ورثت ميولها الفنية عن والدها “ابراهيم مصطفى الكاديكي الذي كان فنانا موسيقيا يجيد العزف على آلة البيانو ويشارك السيد علي لنقي في مقهى يقع قرب ميدان سوق الحوت بمدينة بنغازي” كما يذكر الأستاذ : محمد العنيزي في صفحة (ملتقى أهالي بنغازي) على الفيس بوك.

ولِدت الفونشة في حي الصابري ببنغازي العام 1935 وبدأت مشوارها مع الأغنية الشعبية التي لاقت رواجا كبيرا في بنغازي وخارجها، في ستينيات القرن الماضي.

عقد الستينيات يعتبر من العقود المهمة على المستوى العالمي، وفيه حدثت تغيرات سياسية واجتماعية كبرى، صاحبتها ثورات الطلاب الشهيرة التي كان شعارها “كل السلطة للخيال” ، انتقلت من أوربا إلى قارات أخرى، وتلقى رذاذها الطفيف بعض مجتمعات العالم الثالث، ورافق هذه الثورات ظواهر موسيقية استطاعت أن تخترق الحدود وتصل عبر هندامها وديكورها المتمرد على التقاليد الأرستقراطية إلى أكثر الأحياء الشعبية في عشوائيات العالم . ولعل أشهر الفرق كانت فرقة (بيتيلز) الخنافس الإنجليزية التي ألهمت بثورتها الموسيقية على مستوى المضمون والشكل الكثير من الشبان في العالم المتحضر والنامي والمتخلف.

لم تكن ليبيا بعيدة عن هذا الرذاذ الثوري، كما أن عقد الستينيات يعتبر من أهم العقود في ليبيا . فهو العقد الذي توحدت فيه ليبيا عبر تعديل دستوري، وشهد بداية إنتاج النفط الذي معه تبلورت ملامح أول طبقة وسطى ليبية أسهمت حفلاتها في انتعاش أغنية الأفراح الليبية، ولامست فيه الحداثة خطابات النثر والشعر والموسيقى ومناخ الثقافة الجامعي، والعقد الذي برز في نهاياته رئيس الوزراء، المثقف والشاعر: عبدالحميد البكوش، بأطروحته الشهيرة عن الشخصية والهوية الليبية، لينتهي بانقلاب عسكري ألغى فيما بعد اسم (ليبيا) من قاموس الأطلس، وهيمن بعض جنرالاته على ساحة الموسيقى تأليفاً وتلحيناً وتوزيعاً وإدارة.

كما شهد عقد الستينيات الهوس الشبابي بفرقة الخنافس التي انتشرت موسيقاها وما صاحبها من أكسسوار ثوري بين الشبان الذين عتقوا شعورهم وارتدوا بناطيل تشارلستون الواسعة والأحذية ذات الكعب العالي، وارتدت فيه فتيات الطبقة الوسطى بناطيل الجينز والميني جيب المصحوب بتسريحات مستعارة من ملصقات السينما المصرية، وهي الهيأة التي أصبحت هدفا لملاحقة شرطة الآداب بعد الانقلاب الذي اعتنق المزاج التجهمي في ظل الشعارات الثورية الكبرى الخالية من المرح والخيال.

بنغازي المدينة الثانية التي تشكلت من كل مكونات النسيج الليبي تقريبا، كانت تخوض حالة منافسة شديدة مع العاصمة طرابلس، خصوصا بعد أن عينتا في الدستور كعاصمتين للبلاد، ومن حمى هذا التنافس برز الهوى البنغازي في صناعة النجوم في كل مجال ، الفن والرياضة والفكر والأدب.

وحدث في الستينيات أن تحول مفكر عقلاني من سوق الحشيش، الصادق النيهوم، يضرب كل التابوهات بقلمه المدبب، إلى نجم شعبي ، كانت تنتظر مقالاته المنشورة في جريدة الحقيقة طوابير من القراء، وحتى من بعض الأميين. بينما على المستوى الأدبي كان نجما بنغازي الشاعر الحداثي الذي نزح من القصيدة العمودية إلى قصيدة التفعيلة ، محمد الشلطامي، والناثر الرشيق ،المتأثر بهمنجواي، خليفة الفاخري. فضلا عن نجوم كرة القدم مثل، مصطفى المكي، علي الشعالية، أحمد بن صويد، علي البسكي، علي بوعود. بينما انقسم نجوم الموسيقى والغناء بين أصوات معتمدة في الإذاعة الرسمية مثل علي الشاعلية ومحمد صدقي وعمر المخزوم ومحمد نجم، وفرسان الأغنية الشعبية التي كانت تُحيى بها  الأعراس والسهرات الخاصة مثل علي ويكا وعبدالجليل الهتش وفتحي الصور .

في هذه السماء المرصعة بالنجوم برزت الفنانة الفونشة بفرقتها الصغيرة التي وصلت أصداءها إلى شتى ربوع ليبيا، ومنحت أغنية المرسكاوي التي اشتهرت بها مدينة بنغازي نكهة خاصة، عبر صوتها الذي يقع في منطقة التداخل المحببة بين الذكورة والأنوثة، وعبر أدائها الذي كان يشبع كلمات الأغنية ويضفي عليها حضورا شعريا مضافا، كما اتسمت كلمات أغانيها التي شارك بها بعض شعراء الأغنية بالتوغل في علاقات الحب دون أن تتخلى عن كبرياء الأنثى وأنفتها، وكان اختيارها لهذه الكلمات يعكس إلى حد كبير شخصيتها المستقلة، وروح التمرد في داخلها ، واتساقها مع ذاتها الذي منحها في النهاية حب الجمهور والشهرة، بعد أن خرج صوتها من عزلة الأفراح النسائية إلى الكاسيت، حيث أصبحت أغانيها التي رافقتني في الخلاء تصدح بها مكبرات الصوت في سيارات الشباب في تلك الفترة .

من أغانيها التي تعكس كبرياء الأنثى واعتدادها بنفسها حتى وهي تنشد الحب لدى الطرف الآخر :

“سليم ريشهن ماهن اعدم مازالن .. ولا يالفن غيات فيت ايوالن

عْدم بالرجّة ولا يقبلن م العيب حتى حجّة

ينوضن زعالة كيف قوم الهجّة

إن ما جبتهن باقدار ما ينجابن”*

 

كما لم ينسها إبعادها عن إذاعة أغانيها في القنوات الرسمية التغني بالوطن؛ عبر عدة أغاني وطنية، دون أن تفقد حرارة الأداء التي تميزت بها أغانيها العاطفية، ليتحول الوطن إلى معشوق بلحم ودم وليس مجرد كيان سياسي، صابغة عليه روحها المستقلة وعزة النفس التي كانت إحدى سماتها، وكأنها في هذه الأغنية ترد على أغاني الجنرالات في ذلك الوقت التي كانت تعتبر عزة ليبيا بقائدهم.

عزيزة والعزة بالله ..وعندك جاه .. عليك يا بلادي مشا الله

وظل الحب المتبادل بينها وبين بنغازي هو ثابت هذه العلاقة التي لم تتأثر بكل العواصف التي سعت لتقويض الجمال في الوطن وفي هذه المدينة، غنت لبنغازي وفي بنغازي، وتحولت إلى إحدى أيقونات هذه المدينة التي شكل الطرب الشعبي وجدانها الأصيل، وأصغت بأذن مرهفة لتلك الموسيقى الصادرة عن آلات متواضعة وعن أرواح شعبية عاشت في قلب الزحام وشاركته أفراحه وأحزانه وهي تغني له ومعه، ومن جديد تغني لبنغازي علاقة عشق حقيقي ، ليس عشقا فحسب ولكن ترقى به إلى علاقة اقتران وزواج، عبر هذا الحوار الذي يتم عادة بين البنت وأهلها وهم يعرضون عليها اختيار زوج:

“عقالي قالوا لي وازي

قلت لهم نبي بنغازي”

الفونشة ، تلك السيدة الخلاسية، التي طالما أضاءت ببحة صوتها الساحرة ليالي بنغازي، وآنست بهديلها ليل العشاق الموحش في أرض أضيق من الحب ،  ستظل شاهدة الجمال الذي رافق فرحة الليبيين بكيانهم، وأيقونة ليبيا الناشئة حين كانت نغما في خاطر الشاعر مصطفى الهنقاري غناه الفنان عبدالوهاب يوسف (محمد نجم)في الستينيات.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى