كتَـــــاب الموقع

الفكاك من “مصيدة العار”

المهدي التمامي

تابعت قبل فترة غير بعيدة قضية إجبار الرياضي، “ماركوس راشفورد”، للحكومة البريطانية، على دفع ثمن غذاء الأطفال الفقراء في المدارس هذا الصيف.

و”ماركوس راشفورد” هو لاعب كرة قدم محترف في فريق مانشستر يونايتد الشهير، يبلغ من العمر 22 عامًا، عاش حياته فقيرًا من دون أب، حيث تولت أمه تربيته في ظروف صعبة، لكنها استطاعت أن تزرع في سلوكه المثل العليا التي تختصر الإنسانية في أسمى معانيها، ألا وهي الرحمة.

لم ينكر هذا اللاعب الثري والشهير تاريخ فقره وقسوة معيشته مع والدته، بل شعر دائمًا بأنه واحد من مليون ومائتي طفل فقير حاولت الحكومة البريطانية أن تتخلى عن وجباتهم الغذائية في المدارس هذا الصيف؛ ولذلك أسّس جمعية خيرية لهذا الغرض؛ وتعلم فوق ذلك لغة الإشارة للوصول إلى أقل الفئات حظاً.

لم يكن هذا اللاعب يطمح للشهرة، أو الرياء أو تكريس (مشيخته) في القبيلة، أو أي غنيمة أخرى، بل كان الدافع لكل هذا الخير هو القوة الأخلاقية العالية التي اكتسبها من تربية والدته الفاضلة، ليكون ضميره حيًا على الدوام، وحساسًا حيال كل موقف ضد كرامة الإنسان.

لقد نجح هذا الرياضي إنسانيًا، لأنه تخلص من (فكرة العار)، ولم ينكر أنه عاش فقيراً تحت رعاية والدته من دون أب، كذلك لم تتلقفه وسائل الإعلام بالكيد له، والاستهزاء بتاريخ فقره، والتشكيك في نواياه، وأن خلفه داعم له أغراض سياسية أو وصولية، بالإضافة إلى الدعم المباشر والهادر من جمهوره العريض الذي يمثل، في أساسه، سببًا رئيسًا في نجاح أو خسارة من يجلسون على مقاعد الحكم؛ لأن هذا الجمهور هو من جاء بهم من صناديق الانتخابات.

وفي تقديري؛ فإن هذا هو المستوى العالي للرقابة التلقائية لكل سلطة قد يخامرها الظن بأنها في مأمن عن أعين الشعب الذي جاء بها إلى الحكم.

من خلال ما سبق؛ نستنتج أن النجاح لم يكن نجاحًا فرديًا؛ لكنه كان نتيجة تضافر عدة أسباب تحققت دفعة واحدة.

والسؤال هنا: لماذا لم يفكر أحد المسؤولين الممثلين للشعب في الحكومات المتعاقبة منذ 17 فبراير حتى اليوم في محاولة جريئة مثل هذه المحاولة التي قام بها لاعب كرة قدم لا يملك سوى موهبته الرياضية ومحبة الناس، والأهم من ذلك حسّه الأخلاقي المرهف الذي ساهمت أمه في تكوينه المتين؟!

ما أحقر أن يتخلى المرء عن مبادئه.. بل إنه من العار أن يتنكر المرء لتاريخه الشخصي المحترم، من أجل مصالح شخصية زائلة تطمس قيمته الاجتماعية، وتمحو اسمه الشريف الذي قضى جزءًا طويلاً من حياته في صناعته.

شخصيًا؛ سأقرأ الأسباب السابقة التي ساهمت في انتصار “راشفورد” على الحكومة البريطانية بفهم عكسي يضعنا عند مستوى الفهم المقنع.

أولاً، لا يستطيع أي مسؤول أن يتحدث عن ماضيه القريب، طبعًا، قياسًا على عمر التجربة الجديدة.. هذا الماضي الذي يعرفه الجميع للأسف، ويسعى صاحبه لتجاوزه كنوع من تنقية التاريخ مما يعتبره نوعاً من العار والانتقاص.. لأن هذا التاريخ الشخصي للمسؤول غالبًا ما ينحصر في ثلاثة أشياء (المستوى التعليمي المتواضع، أو الوضع المالي المنخفض، أو عدم التخصص في المجال المكلف به).

ثانيًا/ شفاهية المجتمع، وسلطة اللسان الدارج، حيث أن قلة قليلة من المجتمع الليبي تستطيع أن تطلع وتنصف.. وهذا ما يجعل من المسؤول الذي قد يحاول أن يقف موقفًا إنسانيًا تجاه من انتخبوه وجاءوا به إلى السلطة (السلطة التي تعني الثراء الفردي والعائلي في التعريف الشعبي الواقعي للمنصب).. أن يصبح عاجزاً عن مواجهة هذا الإعلام المتطاير بشراسة في كل اتجاهات الحديث الممهور باسمه الاعتباري والاجتماعي.. كون الغالبية من عامة الناس تنساق وراء التشويه والتجريح والطعن والنقد المباشر على عواهنه، والأسوأ من كل ذلك هو تصديق ما يقال عبر هذه المنظومة الشفوية الجارفة.

ثالثًا/ لقد دأب الأوصياء على الشعب، بمختلف تصنيفاتهم (القبلية، والإثنية، والحزبية) على احتكار الحضور في كل فترات اقتسام كعكات الحكومات الليبية المتعاقبة بعد 17 فبراير، وفرض (الأسماء الذلولة) حتى يتسنى لهم التصرف، بأنانية، في المناصب العالية، واستغلال امتيازاتها بكل يسر، من خلال أولئك التبع المرتزقة الذين مكّنوهم في الوزارات والمؤسسات الحكومية الأخرى، وأعطوهم أدوارًا فوق قدراتهم الحقيقية على الإنجاز.

لهذا؛ علينا أولاً قطع الطريق أمام هؤلاء الأوصياء، وبقية المسؤولين المتغوّلين، الواهمين بأنهم يمتلكون سحرية القبول الدائم، والقدرة على استغفال الناس، والذين يمثلون اليد الملوثة بالفساد لأولئك الأوصياء؛ فإذا ما وصلوا من جديد إلى الحكم، بتدبير وموافقة الفاسدين تكون الكارثة أكبر لأنهم تشبعوا بالخبث ومردوا على النفاق.

وإلا؛ فسوف يظل هؤلاء الأوصياء، ومن والاهم بفساد من المسؤولين، يرفضون أي تفكير لا ينسجم مع ثقافتهم المبنية على تحليل المال العام وغنمه، ليظهر عبر غسيله المستقبلي في ثراء فاحش متعدد التوليد، وسوف يجابهون أيضًا كل المفاهيم الأخلاقية للنخب الصالحة، لأنها تقع خارج دائرة مفاهيمهم المرتبطة بثقافة المكاسب.

‏لا ينكر عاقل صدوق أن هذه الانهيارات التي تتعرض لها الكيانات كلها على حد سواء في ليبيا هي بسبب النزاعات المسلحة على الحكم، وعلى الرغم من بعد أرض المعركة عن أغلب المدن والمناطق؛ إلا أن الانعكاس المأساوي يقع مباشرة على تلك المدن والمناطق بمختلف أطيافها التي تمثل المنظومة القيادية فيها، لأنها لا تملك إلا أن تصطف مع إحدى الفئتين، وهذا ما يجعل الحياد خيارًا بعيدًا بالنسبة لهم، لأنه يعرقل انتهاز الظروف السانحة للكسب والثراء السريع، ويؤثر في تداخل المصالح بين اللصوص وتجار الصدف، وهنا؛ يصبح التمسك بالسلطة والامتيازات الانتهازية الجشعة هو الهدف الذي لا يعلو عليه أي هدف آخر.

إن هذه الفئات الفاسدة على استعداد لتقديم كل ما من شأنه أن يضمن لها تمرير صفقاتها المشبوهة، واستمرار وجودها على المستوى التنفيذي والاستفراد بالمزايا والبقاء في الحكم.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى