كتَـــــاب الموقع

“الفحْمة”

 فرج الترهوني

جرت العادة أن تفتش الشعوب في أوقات الأزمات والمحن، باحثة عن رمزٍ ما يشحذُ الهمم، ويرفعُ المعنويات، لمواجهة الخطوب التي تهددها. ومنذ بدء الغزو الروسي لأوكرانيا، أظهر الشعب الأوكراني، بكافةِ شرائحه، بطولة منقطعة النظير في مواجهة القوة العظمى الغازية المجاورة التي حشدت من القوى والعتاد، ما اعتقدت أن بإمكانها تحقيق طموحات وأطماع بوتين في النصر الساحق خلال أيام معدودات، وبالأخص بعد أن اقترن ذلك بإطلاق “الأخ الأكبر” بوتين تهديده النووي المبهم، ضد العالم إذا ما تجرأ وتدخل في هذه الحرب.
المفاجأة الأولى تمثلت في رئيس البلاد الذي أبهر العالم وفاجأ شعبه بصموده، وهو الذي لم ير فيه كثيرون سوى ممثّل كوميدي سابق جعلت منه الصدفة رئيسا لدولة مهمة في شرق أوروبا، لكنه مع ذلك رفض عرضا أميركيا بنقله إلى مكان آمن خارج البلاد، وأطلق جملته الشهيرة: “أحتاج إلى أسلحة للمقاومة، وليس لرحلة إلى برّ الأمان” وهو ما شجع شعبه ودفعه إلى المقاومة الشرسة التي عرقلت خطط المعتدي، وجعلته يمعنُ في التنكيل والتدمير الذي لم تر أوروبا له مثيلا منذ آخر حرب عالمية.
بالمثل أصبحت قناصةٌ أوكرانية تعرف باسم “فحمة” كييف، بطلة قومية في أوكرانيا، وتحولت إلى رمز للمقاومة، بفضل شجاعتها في مواجهة العمليات العسكرية الروسية. هوية القناصة غير معروفة، حتى بعدما نشر الجيش الأوكراني صوراً لـ”الفحمة” بدا فيها وجهها مغطىً بشكل جزئي لحماية هويتها، لكنها اشتهرت في المواقع والصفحات الاجتماعية الأوكرانية بفضل شجاعتها ومقاومتها للعمليات العسكرية الروسية. وحرص الإعلام الحربي على نشر سيرتها فعرف الناس أنها كانت منضمّةً إلى مشاة البحرية الأوكرانية وقاتلت الانفصاليين الموالين لروسيا في شرق البلاد. وبعد أن انتهت خدمتها في يناير، انضمت مجدداً إلى البحرية الأوكرانية حينما غزت روسيا بلادها في فبراير الماضي. ووفقًا للتقارير فهي من مواطني دونيتسك، عمرها أربعون عاما، ولديها طفلان، فاليريا 11 عامًا ويوليا 9 سنوات.
اشتهرت “فحمة كييف” بعدما أطلقت دعوة تحفيزية للقوات الأوكرانية الموجودة على خط المواجهة. فقالت في ندائها، بعدما أظهر الأعداء وحشيتهم التي فاقت كل التصورات: “هؤلاء ليسوا من بني البشر. وحتى الفاشيون لم يكونوا بهذه الدناءة فهم مثل الوحوش. يجب أن نهزمهم، ونخرجهم من بلادنا.”
المفارقة العجيبة أن أوكرانيين على المواقع الاجتماعية قارنوا “الفحمة” بالقناصة الأسطورية، ليودميلا بافليشنكو، وهي أوكرانية أيضا، وكانت تلقب بـ”سيدة الموت” بعد أن قنصت 309 نازيا في الحرب العالمية الثانية. وحصلت على وسام بطلة الاتحاد السوفيتي”، وظهرت صورتها على الطوابع البريدية. كما تم تصوير فيلم روائي طويل عنها في عام 2015. ودافعت بافليشنكو عن مدينتي “أوديسا” و”سيفاستوبول” ضد النازيين قبل أن تصاب بشظية. ويشاء القدر أن تتبدل الأوضاع، ويصبح الروس هم الأعداء، يقومون بما قام به النازيون، وتنتظر أوديسا مصيرا مشابها لما تعرضت له في الحرب العالمية، وقد تعيد “الفحمة” سيرة سالفتها وتقنص المعتدين في أوديسا، كما فعلت في ضواحي كييف، واستحقت لقبها بجدارة.
ما أحوج المقهورات المظلومات في أوطاننا، اللاتي يرزحن تحت قوانين ظالمة تعيق الأداء، وتسحق المواهب، وما يمكن أن يساهمن به في التقدم المجتمعي ورفعة الأوطان، فتجردهن في أغلب الأحيان من حقوقهن الإنسانية البديهية. ما أحوجهن إلى التمعّن في قصة الأم المقاتلة، أمّ فاليريا ويوليا، فعلى الأقل يمكنهن الدعاء للفحمة بالتوفيق في مسعاها للدفاع عن وطنها، وهذا أضعف الإيمان.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى