مقالات مختارة

الطاهـــر الأميـــن المغربـــي فـــي ذمـــة اللــه

د. محمد الطاهر الجراري*

وما كان طاهر هلكه هلك واحد .:. ولكنه بنيان جيل تهدما
أنا والطاهر لامين المغربي أبناء بلد واحد وجيل واحد، ولدنا متقاربين عمرياً في أقار التي كانت اجتماعياً فسيفساء بشري عجيب، تعلمت في آخر العمر مع انتشار تقليعه التنسيب، تقسيمه إلى الأفارقة وورفلة والمجابرة والمغاربة والحساونة والمقارحـة والقدادفـة والطـوارق وأولاد أبو سيف والاشراف والأنصار والمصارتة.

جميعهم عاشوا أخوة متحابين دون تنسيب، صهرتهم بوثقه أقار في رداء الاسلام السمح الذي لا يعرف التمايز إلا بالتقوى التي تجمعهم في الجامع أحياء، وتدفنهم في مقبرة سيدي سالم، بوابة الآخرة، أموات.

أنا والطاهر بعيدين نسبياً؛ هو من حي “البلاد أو القصبة” وأنا من حي “العرق” ولدنا في البيوت، لا المستشفيات، ورضعنا لبان أمهاتنا، لا المعلبات، وسرى ماء عين آقار في عروقنا، وكبرت جسومنا على التمر والقمح والشعير والخضار والفاكهة من زراعة أبائنا وأجرائنا.

ومع ذكورية المجتمع، إلا أن للمرأة الحق في التملك و”التشريخ” أي الافصاح العلني عن أرائها أمام الرجال، كما تؤكد الوثائق.

لعبت أنا والطاهر مع أترابنا بألعاب من الطين اللزج، نقعره ونلقيه على الأرض، فيحدث فرقعة نتبارى في قوة أصواتها، ومعنا البنات يصنعن من جريد النخل، وعيدان القصب عرائس بلباسات مزركشه وملونة تساعدهن فيها الأمهات.

الطفولة كانت قصيرة، سرعان ما ننتقل منها إلى الجامع الذي كان في وقتنا يدرس فيه الفقيه علي بن عبد الله. معظم الأولاد كانوا يبتدؤون حياتهم العملية بالدراسة في الجامع، الذي يجلس في محضرته سيدي علي، على مصطبة قريبة من الباب، وبيده عصا طويلة يقضي بها معظم مآربه.

كان لسيدي علي قدرة فائقة على الاستماع والكلام في وقت واحد، فكان – رحمة الله – مصدر الاملاء والتصحيح والسرد، أي التسميع والتوجيه. كنا نخافه ونرهبه، لأن نساء ورجال القرية كانوا ينقلون إليه أقوالنا وأفعالنا السيئة، وكان يضع لكل فعل عقاباً، يتراوح ما بين الشتم والضرب على اليدين، والفلقة على القدمين، وأصعبها كان قرص اللسان، وهو عقاب الكذب، فإذا جاء والد أو والدة لسيدي علي، واشتكوا إليه أن ابنهم كذب عليهم، يقوم سيدي علي باستدعاء الكاذب ويطلب منه إخراج لسانه، فيأخد الفقيه نواة تمر، يضعها على سبابته المثنية، ويضع أسفل لسان المذنب على النواة، ويضغط عليه بإبهامه من فوق، مع تحريك الرأس للأمام والخلف حتى يدمي الفقيه اللسان أحياناً، ثم يدفع المذنب بقوة إلى الخلف حتى يقع على الأرض مردداً “ألا لعنة الله على الكاذبين”.

وهكذا كان لكل ذنب عقاب يناسبه؛ فالسرقة عقابها الضرب المبرح والتعزير المُؤذي، بعد الاعتراف والاعتذار؛ أما التطاول على الكبار والتنابز بالألقاب، فلكل عقابه الرادع، وهكذا مع بقية التصرفات.

وأغرب ما أذكره من طفولتي أن سيدة اشتكت لسيدي علي بأن ابنها لا ينظف النواة جيداً عندما يأكل التمر؛ ورغم تندرنا بالواقعة، إلا إنني لا أذكر العقاب الذي اخترعه سيدي علي لهذا الذنب.

كان سيدي على هو المحكمة التي ينتهي إليها المذنب لتقرير العقاب الرادع، لهذا كنا نخافه، ونخشى التغيب إلا بعذر شرعي، ينقله الأب أو الأم أو الجدة إلى الفقيه .

الجامع كان بالنسبة لنا المدرسة والمربي والمحكمة والسجن، ونتعلم فيه القرآن والأخلاق ونتلقى العقاب والثواب. ولأن العلم معاناة، فالنار لن تلمس مكان عصا الفقيه على الجسم يوم القيامة.

ولأنه بقدر الكد تكتسب المعالي، فإن الطالب عليه بذل جهده الخاص لاحضار مقابل للفقيه، يتمثل في صاع من نوى التمر، يجمعه الطالب بنفسه من اسطبلات الخيول وغيرها، أو يتدبر أي شيء آخر يسلمه للفقيه يوم الاربعاء أو الخميس؛ ولأن من علمني حرفاً صرت له عبداً كنا نردد مع نهاية اليوم الدراسي أرزوجة “سلم سيدي سرحنا، حط عظامك في الجنة” .

ولأن السباحة والرماية وركوب الخيل هي عناوين الرجولة، فإن الطفولة كانت قصيرة جداً.

الحياة في آقار تتركز حول عين آقار المكونة من النبع أو “مرجان” كما نعرفه، وحوله قام حوض بيضاوي بقياس عشرة في سبعة أمتار تقريباً على محيط العين، التي كانت تعقد فيها مراسم السباحة المبكرة، لأن من لا يعرف السباحة، قد يغرق ويموت، كما حدث لعدة أشخاص من آقار؛ عليه كان الأب يستأجر معلماً يوكل إليه تعليم ابنه السباحة .

يُحضر المدرب ما كنا نعرفه في آقار “برميل جرماني” وهو ما كان يوضع في السيارات الصحراوية ويستعمل لرفع احتياطي الوقود، بهذا البرميل يتم تدريب الطالب على السباحة، حيث يمسك بإحدى أضلاع البرميل البارزة من الأمام، ويقوم الأستاذ بالدوران به على المناطق القليلة العمق في العين، مرشداً إياه على كيفية تحريك يديه ورجليه في الماء؛

وبعد أسابيع التدريب يُخطر المدرس الأب بأن الابن جاهز للإمتحان؛ وقتها تتولى الأم إعداد قليه من القمح، ويقوم الأب بدعوة المصلين للظهر في الجامع لحضور مراسم امتحان ابنه في السباحة.

وفي الوقت المحدد يَصُفُّ الأستاذ المتدرب وبعض من أقرانه الراغبين وباكتمال حضور المصلين والأقارب، يأمر الأستاذ المتدرب بالقفز الحر في الماء والسباحة في المياه العميقة، والعودة إلى نقطه الانطلاق. عندها يقوم أحد الحضور برمي “القلية” في وسط المياه العميقة، ويقوم المتدرب وزملاؤه بالسباحة والتقاط “القلية” وأكلها، دلالة على مهارته ومهارتهم في السباحة.

بعدها ينصرف الكبار والصغار ومعهم الأب الذي اطمأن على تعليم ابنه السباحة؛ الركن الإسلامي الواجب تعلمه، والمهارة التي ستمنع موته غريقاً .

أما الرماية فكانت تبدأ في البيت، عن طريق الأب أو الأخ الأكبر، وفي الأعراس وحفلات الختان يقوم الأب “بتعمير” البندقية، أي وضع الرصاص بها، ويسلمها للابن، ويطلب منه مسك البندقية وتوجيهها إلى السماء، وإطلاق الرصاصة، وبتكرار هذه الاختبارات يتعلم الابن إطلاق الرصاص، ومنها يتقدم إلى الرماية التي تتطلب خروج الأب إلى الحقول البعيدة، وتعليمه تسديد البندقية صوب هدف محدد، قد يكون علامة في الأرض، أو طير في السماء، أو فوق النخلة، وبتكرار ذلك يتعلم الصغير الرماية .

أما الخيل فهذه أيضاً لها طقوسها، تبدأ بالاهتمام بالحصان أو الفرس، بتكليف الصغير تقديم القضب أو التمر للجادور، ومرافقة الكبار في سَوقِ الجادور إلى الساقية، حتى يشرب على أنغام الصفير، الذي يطرب له الجادور ويفتح شهيته للشراب.

ولتطوير التدريب يُردف الصغير خلف الأب على الحصان عدة مرات، بعدها يسلم له مقود الحصان لربطه في اسطبله، ثم يتقدم التدريب في المناطق الخالية، حيث يعطي للابن فرصة الركوب والتدرج في السرعة، من المشي إلى المرابعة إلى الجري السريع، ويتم الاقرار بالفروسية في الميز الذي كان يصاحب أفراح العرس، التي توضع فيها العروسة في الهودج أي “الجحفه” التي يحملها جمل، يوضع في مكان بارز على جانب ملهد الخيل، ويتبارز يومها الفرسان في استعراض فروسيتهم المقترنة أحياناً بإطلاق الرصاص، ابتهاجاً بالعرس وإثباتاً للذات.

بعد الحرب العالمية الثانية احتلت فرنسا فزان، وسعت لربط الجنوب بأملاكها في جنوب الصحراء وشمال أفريقيا، ولولا رفض الأهالي ذلك لانفصلت فزان عن ليبيا؛ وهنا تتأكد مقولة لعنة التاريخ، لأنه تاريخياً تعوّد الجنوبيون على التوجه نحو الشمال، الأمر الذي لازمهم حتى الآن.

مع الفرنسيين عرفنا “الفرماريا” أو المصحة، حيث تم تداوينا من الأمراض المنتشرة، ولامسنا الحداتة، بفتح مدرسة فرنسية في آقار لم تنجح كثيراً، بسبب المدرس غير المؤهل، ولأن المزاوجة بين الجامع والمدرسة الفرنسية أفقدنا القدرة على التركيز، وتوجيه الاهتمام المطلوب للتعليم.

بعد ثلاث سنوات تقريباً من المدرسة الفرنسية اختار بعض أباء أقار التحول إلى العاصمة طرابلس، للحصول على تعليم عربي إسلامي جاد.

كنت أنا والطاهر من بين من سافر إلى الشمال والتحق بالمدارس في طرابلس، وقد أفادتنا كثيراً التنشئة الأولى في آقار، لقد دخلنا مدارس العاصمة غرباء، إلا من شيء واحد وهو المنافسة الشريفة التي لا تعتمد على أب ولا قبيلة ولا سلطة ولا مال، ولكن الجهد الخاص، والجهد المضاعف للوصول إلى الهدف.

واستطاع أغلب أبناء جيلنا من أقار إثبات أنفسهم في العاصمة، وتأهلنا للجامعة بدرجات متفوقة، فسافر بعضنا للدراسة في الخارج، واستمر بعضنا في الداخل، فكان نصيب الطاهر السفر إلى روما، حيث طوّر امكانياته الفنية في الرسم، حتى صار من أبرز الرسامين في بلاده وفي العالم؛ وأشهد أن صحفياً ايطالياً مشهوراً زار وزوجته ليبيا في أوائل القرن الحادي والعشرين، وطلب مني تمكينه من رؤية رسومات الطاهر، وكان غائباً بالخارج. كنت من القلائل المحظوظين الذي زين بيته المرحوم الرسام الطاهر ببعض من لوحاته، أخذت الايطالي إلى بيتي، وشاهد وزوجته رسومات الطاهر المغربي، وسعد كثيراً هو وزوجته، وقاما بالتصوير الشمسي لهذه اللوحات .

أخي طاهر فراقك صعب، وأصعب منه فراق القيم التي نشأنا عليها، التي ساعدتنا – رغم صعوبتها أحياناً – على إثبات ذاتنا في مجتمعات لم تسندنا فيها سلطة ولا جاه ولا قوة في داخل ليبيا وخارجها، كان وقودنا دائماً الجهد والجهد والعطاء اللامحدود لآقار، التي تحولت إلى ليبيا.

نحن جيل أيقن أن بناء الأوطان يقوم على التوافق الذي توثقه الدساتير والقوانين، والخروج على ذلك ضرب من لعب الأطفال الذين يتسلون بتغيير قواعد اللعبة بالبكاء والعويل كلما عَنَّ لهم خاطر جديد، فالأوطان لا تبنى في سنين، بل عقود وقرون، لهذا قضينا العمر للنهوض بليبيا ورفعتها التي هي رفعة لآقار.

ولأن القيم التي تربينا عليها تقول أن من يؤمن بشيء ويقطع العهد للإخلاص له والتفاني في خدمته، لا يجب ولا يجوز لا شرعاً ولا فروسية، النكوص عنه،أو التردد فيه بحجة الجهوية أو القبلية أو العنصرية أو غيرها، فليبيا هي أقار التي تعودت مناكفة المرحوم على فهمي خشيم (المصراتي) بشيئين عنها:

– أولهما دراسة أجراها الزميل والصديق د.مفتـاح لملـوم (المصراتي) سنة 1962 أثبت فيها أن آقار من المناطق القليلة ذات النسبة العالية من المتعلمين على المستوى الليبي.
– وثانيهما تحريف قول الشاعر:

شيئان أعيا الدهر أن يفنيهما .:. أقار والأمل الذي لذويه
رحمك الله يا طاهر يا ابن جيلي وبلدي، وألحقنا بك على الإسلام لأنه :

أينا قدمت صروف المنايا .:. فالذي أخرت سريع اللحاق
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* مؤسس ومدير عام المركز الليبي للدراسات التاريخية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى