مقالات مختارة

الشفافية والمواطن والسلطة الرابعة

عادل درويش

حق الشعب في شفافية المعلومات حول إدارة مؤسسات من المال العام أمر بديهي، سواء في الديمقراطيات البرلمانية أو الجمهوريات، في أنظمة التمثيل النيابي أو الحكم المطلق.
هذا الأسبوع نشرت «بي بي سي» قائمة بأجور كبار النجوم من مذيعين ومذيعات ومقدمي برامج في شبكاتها المختلفة.
«بي بي سي» تلعب الدور الأكبر في تشكيل الرأي العام. وهناك مرسوم ملكي بضمان استقلالية الهيئة وعدم تدخل الحكومة في خطها التحريري والضامن استقلالية مصدر التمويل، فالمرسوم الملكي يلزم كل بيت بدفع رخصة تمويل لميزانية الهيئة الإذاعية الأشهر والأقدم في العالم.
قيمة الرخصة اليوم 146 جنيهاً أو نحو 190 دولاراً في العام. الاستثناء الوحيد هم المسنون (الذين أعمارهم فوق 75 عاماً لا يدفعون الرخصة)، أما الأغلبية في بلد يفوق تعداده ستين مليوناً فيدفعون الرخصة كاملة، وهذا يوفر لـ«بي بي سي» بضعة مليارات من الجنيهات كل عام.
ولفترة طويلة تقاوم الهيئة ضغوطاً من الرأي العام، ومن نواب البرلمان، كممثلي الشعب بالانتخاب المباشر، للإفصاح عن أجور كبار النجوم والمعلقين الذين يؤثرون على الرأي العام.
الهيئة حاولت التهرب لفترة طويلة من الإفصاح عن هذه المعلومات بغطاء الخصوصية. واحترام خصوصية الأفراد أحد الحقوق المقدسة في المجتمعات الديمقراطية، خصوصاً بريطانيا. حقوق مقدسة كحرية الاختيار، وحرية التعبير وحرية الملكية الخاصة.
فما يتقاضاه عامل أو موظف هو أمر خصوصي بينه وبين صاحب العمل، ولا يعرف تفاصيل الأجر حتى زملاؤه في مكان العمل نفسه، احترام تام للخصوصية.
لكن ذلك يناقض حقاً آخر يقدسه البريطاني وهو ألا يخدعه أحد، وهذا الحق يعود لمئات السنين وتراه في الممارسات البرلمانية. مثلاً من حق اللجان البرلمانية استدعاء أي شخص، سواء كان مدير بنك أو مسؤولاً في السكة الحديد أو رئيس مجلس إدارة من شركات القطاع الخاص لاستجوابه إذا كانت شركته أو مؤسسته تؤثر في حياة الناس كمنحهم قروض الإسكان أو توفير الخدمات أو بيع الملابس والمأكولات.
«بي بي سي» كغيرها من المؤسسات الصحافية تمثل السلطة الرابعة التي تستجوب بدورها نواب البرلمان والساسة، أي هي سلطة تراقب وتحاسب بقية السلطات بما فيها السلطة التي انتخبها الناس للمحاسبة وهي البرلمان.
طبعاً هذه الضوابط والتوازنات تضمن عدم انفراد سلطة بالقرار وبقية السلطات تعرف أنها ستخضع للمحاسبة. لكن «بي بي سي» تضخمت في السنوات الأخيرة بما يفوق عدة مؤسسات مجتمعة ووضعت نفسها فوق المحاسبة.
بقية شبكات الإذاعة والتلفزيون قطاع خاص مصدر تمويلها الإعلانات وبيع البرامج واشتراكات المشاهدين، أي أنها في سوق منافسة حقيقية تطور نفسها وتحسن إنتاجها، وهي ضغوط لا تتعرض لها «بي بي سي».
هذا الامتياز لـ«بي بي سي» كان ورقة ضغط في يد ساسة البرلمان، واضطرت «بي بي سي» لنشر قائمة أجور النجوم. لكنها لم تنشرها كلها، فقد نشرت أسماء العشرات الذين يتقاضون أجوراً يزيد كل منها على 150 ألف جنيه (195 ألف دولار) في العام. وهناك مئات يتقاضون ما بين 100 ألف و149 ألفاً، مع العلم أن متوسط الأجور في بريطانيا هو 27 ألفاً و600 جنيه في العام، وهو أجر طبيب بخبرة ثلاث سنوات، أي أن الحد الأدنى من أجور النجوم يساوي أجر ستة أطباء. و150 ألفاً هو مرتب رئيسة الحكومة (150 ألفاً 402 جنيه بالضبط)، فأجور الساسة والوزراء معلنة، لأنها من الخزينة العامة التي يمولها دافع الضرائب. وهؤلاء الساسة يستجوبهم مذيعو «بي بي سي»، فتعالت أصوات الناس بضرورة إعلان أجور النجوم للشعب الذي يدفعها من أمواله من الرخصة.
المعلومات بينت تفاوتاً كبيراً في الأجور حتى في هذه الشريحة العليا. فبينما هناك عشرات يتقاضون مبالغ في حدود 200 ألف إلى ربع مليون جنيه في العام، فإن مقدم برنامج مباراة اليوم، وهو لاعب كرة قدم متقاعد يتقاضى قرابة مليونين من الجنيهات، بينما مقدم برامج الأغاني والمنوعات يتقاضى تقريباً ثلاثة ملايين.
لكن «بي بي سي» لم تكن بالشفافية المتوقعة.
فهناك نجوم مشهورون لا يمكن أن يقبلوا بأجور أقل من المليون، وغابت أسماؤهم عن القائمة المنشورة، ولا يعقل أن تكون أجورهم دون 150 ألفاً، كما اتضح تحايل الهيئة على اللائحة، فهؤلاء لا يتقاضون رواتب من خزينة «بي بي سي»، لكنهم يتلقونها من شركات إنتاج تلفزيوني وإذاعي، تدفع الهيئة فواتيرها الباهظة. المفارقة أن هذه الشركات نفسها مملوكة لهؤلاء النجوم أو زوجاتهم أو أسرهم… أي التحايل على عنصر الشفافية.
المجموعة الأخرى التي لم تنشر الهيئة أسماءهم ويتقاضون أجوراً تزيد على ثلاثة أو ستة أضعاف مرتب رئيسة الحكومة، فهي مجموعة المديرين والمستشارين، واستثنتهم «بي بي سي» من هذه الشفافية، لأنهم ليسوا مقدمي برامج ومذيعين.
ولعل أحد أهم أبعاد ازدواجية المعايير ما كشفه نشر لائحة أجور النجوم، من أن الهيئة هي ربما أسوأ مؤسسة في المساواة بين الجنسين. فأجور النساء من النجوم أقل كثيراً من زملائهن الرجال. وبينما أعلى دخل لنجمة نسائية في «بي بي سي» هو 400 ألف جنيه فإن المقابل لها، أي أعلى دخل رجل هو ثلاثة ملايين، أي قرابة ستة أضعاف ما تتقاضاه.
ولا يكاد يخلو برنامج إخباري في أي محطة من محطات «بي بي سي» من انتقادات للحكومة بحجة قلة تمثيلهن في مجلس الوزراء (سبع وزيرات أو الثلث في حكومة رئيستها سيدة)، ولم تسلم مؤسسة أو شركة أو منشأة من انتقاد «بي بي سي» بحجة عدم مساواة العاملات فيها بالعاملين الرجال، ولذا كانت المفاجأة أن الهيئة التي تلقي الموعظة على الناس صباحاً ومساءً عن ضرورة المساواة بين الجنسين، اتضح أنها أكثر المؤسسات الممولة من الشعب في عدم المساواة بين الجنسين.
وعلى أغلب الظن أن الإصرار على كشف ما أرادت الهيئة إبقاءه سراً سيضطرها إلى إنهاء المغالاة في الأجور، وربما إلى الإسراع في المساواة بين الجنسين.
ربما الدرس لقرائنا هنا أن معظمهم يعيشون في بلدان يلعب فيها القطاع العام ومؤسسات تابعة للدولة أو مؤسسات حكومية الدور الأكبر في حياتهم الخاصة كالمرافق والإسكان، بل إن الدولة هي أكبر صاحب عمل يوفر الوظائف في هذه البلدان. وقد يكون للبرلمانات فيها دور مختلف عن تقاليد وستمنستر، لكن تبقى معادلة ضرورة محاسبة الشعب للمؤسسات الممولة من المال العام عما تفعله بهذا المال، فمهما تعاظمت الخدمات التي تقدمها للمواطن، فإنها ليست إحساناً، لأن هذا المواطن هو صاحب العمل والسيد والمؤسسة هي خادمة.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

“صحيفة الشرق الأوسط”

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى