اهم الاخبارمقالات مختارة

الشعر.. العذوبة  والأريحية

حتى أطرد من عقلي غيابه وأُتبّث في قلبي حضوره الشاعري الحيّ،هذه قراءة من آوراق قديمة يجدّد معناها حدث رحيله من فُلك دنيا ضيقة إلى رحابة حياة شاسعةإنها قراءة في شاعر  يموت ويحيى شعره الذي كتب لنا ضجة نعناع، وشهقة دغل، ودمع فلّ ــ  طفل، ونبض غابة، وعرّي إخضرار حدائق،وجنون تُراب،وتجاسر اللون في تفاحة،ورفيف أجنحة طيور،وصرخة أعشاب، بحياة ترسم ملامح كونية جديدة، نتعلّم منها رغم العدم ،حُبّ العالم ومديحه،فندخل جسداً وروحاً، في جوهر سعادة، في كون كلام ،شيّده الشاعر بمفردات الإنساني والكوني بزخم شاعريته الخصبة المتوّثرة، شاعرية حميميات، غنّى آخر موّشح  منها  في صباحه الأندلسي الآخير ليتوّشح  بموت هو حياة في ذروة الخلود،لتبقى كلمة محمّد الفقيه صالح الروح الصالحة التي كانت صلاحنا وصلاح كوننا ويبقى شِعرُه الأريحيّة العذبة الساكنة فيه.

نورالدين خليفة النمر

المقـاربـة الأيروسـيـّة

إن مدار بحثنا في شاعريةمحّمد الفقيه صالحسيكون متمحورا حول اكتشاف ذاتية الشاعر الوجداني التي تبدو وكأنّها من عمق اعماق الوجود متجلّية في تلكالحميمّيات المركبّةالتي توّحد بينأنـا الشاعرو كائنات العالمفي علاقة حميميّة يتماهى فيها جـوهرالأنـامع جـوهرالكائنات، وغالبا ما تتجسّد تلكلحميميّات المرّكبةفي صورايروسيّة٭ شهوية ملموسة يعبّر عنها إنفعال متوفّز وثّاب يفصح عن توتّر شاعري عميق يغوص بنا في ذلك الخضّم الغني بإتجاه منبع الكلام معبّرا عن رهافة وشفافية تنّم عن روح رقيق عذب يتغلغل في هذه الصور الشعرية التي تمزج بين الذات والكـائنات والأشـياء : ” ترّف حول خاطري النوارس المبلّلة / بنشوة النهار والسفر ” ( حالات ) … ،تنتشي فّي الغزالات ، الشموس تصير ملكي / فتتبعني الشرانقتحتفي الأشياء بي ” ( دفء الإبتهال ) ولكن سرعان ما يفسح ذلك الروح الرقيق العذب المجال لإنفعال يتّسم بالعنف والتوتّر يعبّر عنه الشاعر بـ رعشة الجسد ، وشهوة التفجير ، ولهب الأمطار ، والتجّذر في احشاء الليل الموحش:  تنوشني الأشياء في تحوّلاتها / فأنتشي برعشة الجسد ” ( تقاسيم تكوينية ) ،جسدي مشدود ـ في لهب الأمطار ـ إلى الرجفة ، والتوق المشرق “( حمّى الأرتعاش ) ،أتوّحد بالنخل السامق في ليل الصحراء الموحش اتجّذر في / احشاء الليل ” (مقاطع ليلية ) .ولكّن ذاتية الشاعر التي تتجلّى من خلال التعبير المحموم عنالأنـاتبدو مسلمة مسبقا إلى العمليةالديونيزسيّة٭ ، منقادة إلى ذلك الروحالايروسيالذي يلهب الكلمات فيكسبها حيوية ويمنحها حرارة ، ويعطيها دفقا ، مفجّرا موسيقى النّص ، باعثا طاقاته الدّالة قبل كل احتواء تمارسه الكلمة ـ الفكرة ، منتزعا تلك المنطقة الرقيقة والحسّاسة من رتابة اعتياد الكلام ، فالشاعر يخبرنا بأنالغيمة  تنفعل ، والأشياء حول الذات تتفتّح ، والرغبات تشتجر ، وفي الدم تشّب طفولة النهار ، وفي الخطى لهفة الصهيل للعراء” ” معّمدا ، اصير ،في دوائر الطقوس والحرائق ” ( تقاسيم تكوينية ) ،تشّب في دمي طفولة النهار … / وفي خطاي لهفة الصهيل للعراء ” (حالات ) ،تتفتّح من حولي الأشياء ، وتشتجر الرغبات ” ( جدلية الغابة) ” أنفذ بالشهوات إلى أوردة الريح، ( رقص) ” آه لو تنفعل الغيمة في جوف سمائـي / ألقي بنفسي في طقوس الماء ” (إيماءات الضؤ والظلمة )، وتعبّر العمليةالديونيزسيةعن ذاتها في شعر  محمّد الفقيه صالح عبر الإحساسية المثارة في الوعي ، معتمدة الإيحاء يإعتباره نقيضا للوصف الموضوعي ، فالشاعر لا يمكن أن يتواصل معالجوهر الكونيإلاّ بإحداث بلبلة حادّة في حواسه ، وتجسيد إنغماسهالديونيزسيالشهوي عبر الإيحاء بإعتباره إهابة ، وتلميحا ، وإستثارة ، محدثا ذلك الفضاء الشعري الذي يفسح المجال لتدّخل الطبيعة غير المشروع والمباغث في الدراما الإنسانية .                                     

الـنـمل هـنـا

والحرباء الـحيرى

والعـسل اللامع فوق ثمار المانجو

ونـصاعةمرجـانالشاطئ

موسـيقى الألـوان

وإيـقـاع الـخضرة

خـشـخشة الورق اليابس ،

وإستنفارالخذرالهاجسفيالحشراتالمختبئة

إيـما ، واستـدراج ، وخطى خـجلى

إيلا ف في اعشاش الدفء

فـهمـس منـفعل

فدّوي … ( جدلية الغابة )

في هذا المقطع من قصيدة ( جدلية الغابة ) يمنحنا الشاعر نصا يساعدنا في الولوج إلى أعماق ( الكوني ) المتعذّر سبره شاحنا نصّه بتأثير دينامي متصاعد ، وإحساس بالحركة متنام ، إحساس بحياة الغموض الموّارة المثيرة . هذا الإحساس الذي يتجلّى عبر اداء غنائي متميّز ، يكتشف الشاعر فيهأنـاهمن خلال تفاعل حميمي مع العالم ، وفي إطار صورة كونية تمنحنا راحة وجود ، وغبطة هناء ، وإحساسا رهيفا بمعنى الكائنات .                                                          

انـفـصـام الأنـا الـتـخييلـي

إن شاعريةالحميميات المرّكبةتتأسس على فاعليةالأنـا التخييليالذي يتّحد مع أبعادالظاهرة الكونيةفي مشهد حلمي يجمع ( كينونة العالم ) شاعريا حول جوهرالأنـابإعتبار الأنا محور الشاعرية الوجدانية ومرتكزها ، ويستمدالأنـا التخييليفي اشعار  محمد الفقيه صالح  فاعليته من ذلك  البعد الشهويالأيروسي  الذي يفسح الطريق لدخول الشاعرية المتوّثرة في جسد اللغة ، مانحا الشعر تلك القدرة على بعث حياة الكلمات التي تلاشت ، وإيقاظ الصور التي بهتت وامّحت ، مؤكدا في الوقت نفسه طبيعة الكلام غير المتوّقعة التي تفّك إسار الحمولة الشعرية التي يخفيها الكون في اعماقه . ولّكنالأنـا التخييليالذي يمنحه البعد الأيروسي فاعلية الحرية وتوتّر الشاعرية وخصوبة الصور والإيحاءات هو في الوقت نفسه مفصوم بنوع من فرح النشوة ، وعذاب الكآبة . ويعبّر الشاعر عن فرح النشوة : ” بالمطر الواعد ، والفرح الشمسي ، وبرق المواعيد ، وخبايا الطلع ، وشهوة التحقّق، ولكّن المطر الواعد يأتي” ( حمّى الإرتعاش )

تحفّزا مسكونا بالفجآة، ( تقاسيم تكوينية ) وحنينا مسّتبدا للمواعيد التي تبرق في بدء المسافات ” ( ايماءات الضؤ والظلمة ) ،واشتياقا الى وصل يتنامى بين الوحشة والفرح الشمسي ” ( مقاطع ليلية ) ،وغوصا فيما يخبئه الطلع ” (خطوط داخلية ) ،وشبقا يحفر في احشاء الرؤيا ما أنجزه الطلق ” ( حمّى الأرتعاش) ” وغيابا في حوار زهرتين أو في تبتّل الأشجار والأعشاب لغبطة الرياح والمطر” (حالات )،وأن الورود الثمار ، المياه  ، البذور الوليدة في نبض عاصفة البذل والأمتياح تمارس شهوتها للتحقّق ” (دفء الأبتهال ) . ويعبّر الشاعر عنعذاب الكآبةبقّش الأنقباض ، والمرايا المعتمات ، والعيون المطفئة ، ونخلة الحزن ، وعشيّات العويل ، وورود الفجيعة: ” ولكّن الأعماق يخدشها قشّ الأنقباضويفتّض البكاء ما تداريه المرايا المعتمات في جحيم الذاكرة ” ( إيماءات الضؤ والظلمة ) فـالعشيّات مشبعة بالعويل” (مرثية للسحاب ) والورود مخثرّة بالفجيعة ” ( القلب هدّته القصيدة ) ،الخطوة تبلع الوقع ، مفجوعة بالتوّجس أو بالعصافير إذ تستحيل على نخلة الحزن مرثية للسحاب” ( مرثية للسحاب ) . ويتعمّق إنفصامالأنـا التخييليفي صورة إنضمام شعوري يتشّكل في نسق مقطعي يصل في بعض المواضع الشعرية إلى ذروة التكثيف الغنائي الذي يستمدّ نفسه من ثنائية تكسب إيقاعه الشعري دينامية ، وتعطيه دفقا غنائيا حارّا . ففي قصيدة ( تحوّلات في دائرة الأشياء ) نقرأ هذا المقطع الذي يتّسم بالكثافة الغنائية :                

اقول مـا هذا الـعمى الذي أصابـني ؟

النساء و الأشجار ، والأطفال ، والأنوثة التي ترّف في ثنايا

هذاالكون،والأمطار،والبحرالذييفّح،والعشب

المنّدى ، غبش الصباح ، ساحة الميناء ، عندما تعّج بالعمّال

لسعة البرد ورعشة الأجساد ، والنوافذ التي يشّع منها الدفء والأسرار

اقول : هلإيماضةتجئكيتوقظفّيجذوتي

وكـي أرى مـا لا أرى ؟

في هذا المقطع من قصيدة ( تحوّلات في دائرة الأشياء ) ، نلاحظثنائية الإنساني والكوني،إذ تتداخل مفردات الأنساني: ” النساء ، والأطفال ، والعمّال ، والأنوثة التي ترّف ، ورعشة الأجساد والأسرارمع مفردات الكوني: “الأشجار ، والبحر المنّدى ، غبش الصباح ، والأمطار” . وفي إطار ثنائية الإنساني والكوني ينتظر الشاعر تلك الإيماضةالأيروسية  التي توقظ فيه جذوة التعشّق فتجعله يرى ، ويحسّ  بتلك الأنوثة التي ترّف في ثنايا هذا الكون الذي غالبا ما تتلبّسه روحا أنثوية يعبّر عنها الشاعر بالتعشّق الغابي ، وشهقة الفجر وتنهّدات الزرقة المحتدمة . فللغابة إيماءة الأنثى: ” غابة تؤمي لي ، ونشيد صاعد من شهقة الفجر ،ورفرفة الموج ” ( إيماءات الضؤ والظلمة ) ، وسيّدة العشق تطلع من الفجر الغابي وتغمر عاشقها بصخب الغابات :                                                                                  

آه.. لـو تطلع سيّدتي / آه .. لـو تطلع من هذا الفجر الغابي

وتغمرني بالخـصب الناشب في رحم الغابات . ( جدلية الغابة )

والأنثى / الفراشة يصفها الشاعر في قصيدة ( جدلية البحر ) بأنّها: “اشتعال في خيال البحر، وهي تطّل من بين الأغصان ، وتقذف عاشقها بنهار صاف في قصيدة ( رفرفة ) :

حديـقـةصمتيتزهرحينتطلّفراشةقلبي

منبينالأغصان،وتقذفنيبنهارصاف

تطعمنيبيديهاالفستق

وتحاورنيبآناملهاالفصحى

امشي في الطرقات إلى جانبها طفلا غرّا

حتى ألمس يدها

فيضّجالـنـعناع

ويـشـهق دغـل

إن الشعر يدخل طبيعة أخرى ،مفرداتها تكمن،وتتبعثر في جدليات فيكتب ضجّة النعناع/ وشهقة الدغل ،دمع الفّل ــ الطفل /، ونبض الغابة ، عرّي إخضرار الحدائق /، وجنون التراب ، .تجاسر اللون في التفّاحة /، ورفيف أجنحة الطيور ، وبصرخة الأعشاب، يرسم ملامح لغة كونية جديدة نتعلّم من خلالها حبّ العالم ومديحه ، فندخل جسدا وروحا في جوهر السعادة ، نقتحم كون الكلام الذي يشيّده الشاعر بمفردات الإنساني والكوني في إطار تلك الشاعرّية الخصبة المتوّثرة . شاعرّية الحميميّات المرّكبة .

  الـهـوامــش

٭ إيروس : إله العشق  . وهو عند افلاطون منبع كل سعادة ومصدر كلّ خير . وفي العصور الحديثة إتّسع المفهوم الأيروسي فأصبح يدّل على الرغبة والشهوة . وهي حركة النفس طلبا للملائم ورغبة في التمتّع باللذّات الحسيّة والأنغماس فيها  . ( الموسوعة الفلسفية العربية ـ معهد الأنماء العربي )

٭ ديونيزوس :  إله النشوة والإلهام عند اليونان ففي البدء اعتبر إله الخمر والكرمة والمرح . ثم إتسّع نفوذه فأصبح إله البساتين والغابات وحياة النبات وتتّسم  اعياده بطابع  المرح والصخب والنشوة .

٭ محمّد الفقيه صالح . خطوط داخلية في لوحة الطلوع .الدار الجماهيرية للنشر .ط 1 . 1999

٭ تبث بالقصائد غير منشورة في الديوان :

ـ مرثية للسحاب / جريدة الفجر الجديد / العدد … / 1977

ـ رفرفة / مجلّة الفصول الأربعة / العدد 50 / 1991

ـ حالات / الفصول الأربعة / العدد 51 / 1991

ـ رقص / مجلّة  لا / العدد 23 / 1992                

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى