مقالات مختارة

الشركات الكبرى باتت تخنق الاقتصاد

نوح سميث

سلط تقرير أعده أخيراً فريق خبراء من مؤسسة «غولدمان ساكس» البحثية، الضوء على دراسة أظهرت أن الشركات اللامعة الكبرى تدفع أجوراً أقل فيما تتحصل على عائدات أعلى. في الحقيقة، لقد اطلعت على هذا التقرير بنفسي، لكن عندما تقول مؤسسة بحجم «غولدمان» إنها قلقة، فهذا يعني أن الأمور قد اتخذت شكلاً أكثر تعقيداً. فالصناعة الأميركية أخذت في الخضوع لهيمنة حفنة من الشركات العملاقة. لكن لماذا تقلق «غولدمان» من هذا الاتجاه؟ قبل كل شيء، دعونا نقلْ إن البنوك الكبيرة لديها من الوسائل الكثيرة ما يساعدها على جني المال من الشركات التجارية العملاقة. فاحتكار القلة يزيد من الأرباح، ما يرفع من قيم الأسهم ويسهم في زيادة مصروفات الشركات المالية، مثل «غولدمان» التي تقوم بمهام مثل تقييم الأصول والسمسرة والتسويق. تتولى «غولدمان» أيضاً عمليات دمج الشركات والاستحواذ، التي تعتبر من الأساليب المهمة التي ساعدت في تركيز السوق. بالطبع في حال خرج تركيز السوق عن السيطرة، قد تشرع في التوجه إلى صلب الشركات المالية الكبيرة. ومن ضمن الأسباب هنا أن التركيز يقلل من حساسية الأسواق وقابليتها للتذبذب، ما يعني أن الأسهم الفردية لن تتجه للأعلى أو للأسفل كثيراً. ويعني ذلك أن التجار ستكون لديهم دوافع أقل للمتاجرة ما دام أن عناصر المقايضة ستكون أقل في ظل أوضاع كهذه. فالتجارة القليلة تعني مكاسب قليلة للوسطاء والمتعاملين ومنشئي الأسواق. وفي تقرير نشر أخيراً، أوضح خبراء الاقتصاد شونك بارترام وغروغري براون وريني ستولز، أن هيمنة الشركات الكبيرة العريقة المتزايدة على الأسواق العامة – أو لنقل الشركات اللامعة التي يشعر خبراء الاقتصاد بالقلق عليها – هي المسؤولة عن العلاقة المتبادلة المتزايدة بين الأسهم.
وفي تقرير منفصل، أوضح الخبير الاقتصادي ستولز، بالتعاون أيضاً مع زملائه كاريغ ودويدج وكاهل وأندرو كارولي، كيف أن الأسواق الأميركية العامة باتت مقسمة إلى شركات صغيرة سريعة النمو. فالأيام التي كانت فيها شركة كبيرة مثل «أمازون» التي ظهرت في العلن عام 1997 بقيمة سوقية لا تزيد على 432 مليون دولار وطرحت أسهمها في السوق، تلك الأيام قد ولت. على سبيل المثال، شركة «أوبر تكنولوجيز إنك» لا تزال شركة خاصة، لكن قيمتها تقدر بنحو 50 مليار دولار. هي ليست مجرد شركة تكنولوجيا ناشئة – رغم أن الشركات الصغيرة بصفة عامة باتت تتجه خارج البورصة، وهذا أحد الأسباب المهمة لانكماش الأسواق العامة. وحتى الآن لا يبدو هذا بالأمر السيئ للأسواق العامة، وحتى بعد حركة البيع الأخيرة، فقد ضرب ارتفاع البورصات أرقاماً قياسية في السنوات الأخيرة. فهوامش الربح التي تستطيع الشركات القوية في السوق انتزاعها عن طريق تقليل الأجور وزيادة السعر باتت صاحبة التقييم الأعلى. ولذلك فإن صناديق التقاعد وخطط الادخار تؤدي أداء حسناً (رغم أن غالبية المكاسب سوف تسحب مقابل مصروفات الإدارة). ولذلك فالتهديد الأكبر الذي تمثله الهيمنة المتزايدة للشركات الكبرى لن يكون لشركة «غولدمان ساكس» ولا لصندوق التقاعد، بل للعمال والعملاء.
عندما تسحق الشركات الأجور وترفع الأسعار، فإنها تقلص من النشاط الاقتصادي. هي أيضاً تدفع بالعمال خارج قوة العمل كلياً وتجبرهم على البقاء في البيت ليقضوا أوقاتهم في ألعاب «الفيديو» ممددين على الأريكة لتذبل مهارات وقيم العمل التي اكتسبوها. من شأن ذلك أن يسهم في تراجع الإنتاج أيضاً، حيث سيتراجع عدد المسافرين بالطيران وستتراجع قدرة الناس مثلاً على شراء الإنترنت عالي التكلفة والسيارات الجديدة.
في العهود الماضية، سعت الحكومة إلى منع الشركات من التضخم. يمكن للحكومة أن تفعل الشيء نفسه الآن بتعزيز قوانين مكافحة الاحتكار ومنع دمج الشركات الكبرى. بعض الساسة، مثل عضو مجلس الشيوخ عن ولاية ماساتشوستس، إليزابيث وارن، أعلنت رغبتها في بداية عهد جديد من منع الاحتكار. ومن جانبه، منع الرئيس ترمب مثلاً محاولة استحواذ شركة «إيه تي أند تي» على شركة «تايم وارنر»، وإن كان قراره جاء لمصلحة شخصية.
لكن حقيقة أن البورصات باتت تعتمد بصورة متزايدة على الشركات الكبرى المهيمنة قد يمنع الحكومة من اتخاذ قرارات صارمة في هذا الشأن. ولو أن أرباح الاحتكار هي الشيء الوحيد الذي يجعل الحسابات التقاعدية للطبقة فوق المتوسطة من الأميركيين بمنأى عن الدين، فسوف يكره غالبية الأميركيين اتخاذ أي إجراء يعزز التنافس.
تكمن المخاطرة في أن يقع الاقتصاد في فخ أشبه بما يعرف بدورة السموم. فمع اتجاه الصناعات إلى مزيد من التركيز، تحتل الشركات المهيمنة جزءاً أكبر من سوق المال، ويدفع هامش ربحها تقييم الأسهم إلى الأعلى. وسوف يصبح الساسة أقل رغبة في اتخاذ خطوات لجعل السوق أكثر تنافسية، ما يسمح للشركات ذات الأسماء البراقة أن تكون أكثر قوة. وطوال الوقت، تسير الحسابات التقاعدية سيراً حسناً، لكن أجور العاملين والاقتصاد كليهما سيعاني من زيادة المنافسة.
من المهم إبطال تلك الدائرة المفرغة قبل أن تتعقد المشكلة. ولذلك فإن قليلاً من منع الاحتكار الآن سيسير في اتجاه منع تحويل «احتكار الأقلية» إلى «هيمنة الأقلية».

______________________________

الشرق الأوسط

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى