اهم الاخباركتَـــــاب الموقع

الشاطئ الرابع (2)

فرج عبدالسلام

الشاطئ الرابع بالإيطاليةLa Quarta Sponda مصطلحٌ شهيرٌ أطلقه دكتاتور إيطاليا الفاشي بينيتو موسوليني، على شاطئ ليبيا، عندما كانت مستعمَرةً إيطالية. وأشتُقّ المصطلحُ بسبب وجود ثلاث شواطئ في شبه جزيرة إيطاليا، وبالتالي اعتُبرت ليبيا شاطئا رابعا.

كان الحافزُ الرئيس لإيطاليا الفاشية في استخدام هذه التسمية هو ترغيب الشعب الإيطالي في فكرة احتلال ليبيا، التي اعتُبرت جزءًا من إيطاليا، وتجسيدا لحقّها في احتلال المنطقة، كما احتلها أجدادهم الرومان من قبلهم، وتركوا آثارهم في مناطق عدة.

“الشاطئ الرابع” أيضا هي رواية عن ليبيا للكاتبة البريطانية “فرجينيا بايلي” تتحدث فيها عن فترة الاحتلال الإيطالي، وهي رواية ممتعة ومؤثرة ، يختلط فيها الحقيقي بالخيال الروائي، تحوي أدق التفاصيل عن طرابلس، والمدينة القديمة، وعن الصحراء ونمط الحياة هناك في تلك الفترة، ما أنتجَ هذا العمل المميّز والغنيّ بالتفاصيل عن ليبيا. وفيما يلي الجزء الثاني من مقال كتبَتهُ الروائية لناشرها عن فكرتها لهذا العمل:
“تابع”…

إن الأثر الذي تتركه هذه النفوس الضائعة في رواية “الشاطئ الرابع” باهت أيضًا ، لكن حكايتهم تصبغ الكلّ لأنها تجسّدُ عدم المساواة بين القوى المتعارضة – التي تُحصَي ولكن بالكاد تسجل – وكذلك تجسدُ التأثير الهائل والمريب، والمُبطِل للصمت الذي يكتنف مصيرهم. وفي الواقع، لا يتعلق ذلك بالوقت المبكر للاحتلال فحسب، بل بفترة الاستعمار الإيطالي لليبيا بأكملها (1911 إلى 1943) التي لا يُعرفُ عنها سوى القليل، والنقاش حولها يكاد يكون سريا.

فالرقابة خلال الحكم الفاشي ضمنت (بشكل أو بآخر) أن لا تظهرَ المعلوماتُ إلاّ التي تسمح بها السلطات. وفي وقت لاحق، كان فقدانُ جميع مستعمرات إيطاليا في الحرب العالمية الثانية يعنى أن الماضي قد ولّى، وانتفت الحاجة لفهمه، وللتعلم منه، أو الاستفادة من دروسه. لذلك ليس غريباً أن الأسرار والأكاذيب تمثّلُ صميم روايتي.

كانت نسخة ليبيا الإيطالية التي أراد النظام الفاشي إظهارها هي المتعلقة بالبهجة، والحداثة، والتطورات الجديدة، والهندسة المعمارية المبتكرة، والقرى النموذجية في بلدٍ مسالم حيث جرت “تهدئة” السكان المحليين.

إن معسكرات الاعتقال في صحراء برقة التي قُتل فيها ما يصل إلى ثمانين ألف شخص، وحملات استخدام غاز الخردل في ليبيا، لم تكن معلومات عامة يجري تداولها على الملأ. وقد ركّزت الدعاية الفاشية على معرض طرابلس الدولي، وعلى الطرق، والكنائس، والتصنيع، والقصور والميادين الرائعة ، وقبل كل شيء ركزت على سباق طرابلس الكبير للسيارت.

ويجسّد سباق الجائزة الكبرى رؤية إيطاليا للمستعمرة. لقد كان السباق ساحرا ورائعا، شارك فيه سائقو السباقات المشهورون والمحبوبون، وكذلك نجوم السينما في تلك الأيام. فحيث يذهب هؤلاء ، يذهب المال. وقد فاز الكونت غاستون بريلي باري، الملقب بـ “غاستون الإفريقي” الذي أحب السباقات في ليبيا كثيرًا، وفاز بالسباق في تالبوت عام 1929 وتوفي على حلبة سباق طرابلس عام 1930.

بحلول منتصف ثلاثينيات القرن العشرين، كان سباقُ طرابلس الكبير، أحد السباقات الأسرع والأغنى في العالم، وكان الحاكم العام للمستعمرة يقيمُ كلّ عام احتفالا كبيرا بالمناسبة في قصره ذي القبب المذهّبة. الحاكم العام هو “إيتالو بالبو” صاحب الشخصية المحبّبة والجذابة – وهو الشخصية الحقيقية التي ساعدت في إلهام مخيّلتي، وقدمت لي أحد النماذج لنوع معيّنٍ من الرجال – شجاعة شخصيًة ، وقوة بدنية ، ووسامة ، ووحشية، وموقع مهم.

كان بالبو عضوا بارزا في الحزب الفاشي المثير للجدل، وله ماض غامض باعتباره سفّاحًا سياسيًا، ولكنه أيضًا كان البطل الذي قاد طائرته منفرداً عبر المحيط الأطلسي. رجلُ يتمتع بخيلاء وبجرأ. وقد ظهرت صورته على غلاف مجلة “تايم” بعد طيرانه المنفرد، الذي جعله محبوبا في أميركا.

على الجانب الليبي، وبالنظر إلى عدم وجود معلومات وسجلات متوفرة ، فقد كان لصورة فوتوغرافية لفتاةٍ ليبية لم يُذكر اسمها على بطاقة بريدية إيطالية معاصرة، معنونة “جمالٌ عربيّ” أثرٌ في استلهام إحدى شخصيات الرواية “فريدة” وهي فتاة بدوية من بلدة صحراوية في برقة. حيث تتكشّفُ قصتها من خلال علاقتها مع بطلتي “ليليانا” وهي ابنة إيطاليا الفاشية.

ويتقاطع مصيرا هاتين الشابتين – وتتغيران نتيجة لذلك – لكن فريدة هي التي تستخدم ما لديها من قوة متواضعة، ما يجعلها مثالاً يُحتذى، تكافح ليليانا من أجل اتباعه.

بإعادة المرور على تلك الفترة، ومحاولة إعادة إحياء ذلك الواقع الغني بالألوان، والحزين أيضا، والمعقّد للمستعمرة، كنت أدرك بشكل مؤلم أن الكتابة عن الماضي هي دائمًا وسيلة للكتابة عن الزمن الراهن، وأن الأسرار يمكن أن يكون لها تأثير تآكل مع مرور الزمن. فمن غير المفاجئ أن يسألَ أولئك المؤرخون القلائل الذين بحثوا في في تلك الفترة، عن مدى إسهامِ الصمت وفقدانِ الذاكرة المتعمّد، في حالة العجز الراهن في المسار الديموقراطي العام.

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى