كتَـــــاب الموقع

“السلفية الوهابية الأمريكية”

أنيس فوزي

قلنا وقال من قبلنا إن القمع والإكراه لا يُغتفر، وإن كرامة الإنسان لا يمكن أن تنسى سجّانا غشيما ينتهج منهج “يد تسبّحُ ويدٌ تذبح” وإن أية جماعة تستخدم العنف في تقديم نفسها ستنتهي بشكل مأساوي -بالضرورة- إذا ما فقدت هذه القوة، لأنها لم تبن سوى العداوات والكراهية مع ما حولها.

لكن محمد ابن سلمان ولي عهد المملكة السعودية الشاب، يخرج من بوتقة التنظير ويعلن هذه المرة عن قرارٍ سيادي بتحجيم دور الجماعة السلفية وخطابها، تأخر الإعلان عنه ولا يمكن تسميته بالمفاجأة، لكن توقيته كان صادما ويدل على شكل التغيير الذي تتجه إليه المملكة، وبالتالي المنطقة كلها، حيث قال لصحيفة “واشنطن بوست” إن “المملكة نشرت الوهابية بناءً على طلب الحلفاء لاستخدامها ضد الاتحاد السوفييتي وضد المد الشيوعي في المنطقة”.

بهذه البساطة والصراحة والراحة يهدمُ بن سلمان ما بناه الدجّالون في هذه الجماعات المتطرفة على مرّ تاريخهم القصير “بالمناسبة”، ويؤكد بضربةٍ واحدة آلاف الآراء التي قدمها المفكرون والناشطون الذين بُحّت حناجرهم في الحديث عن المد ّالوهابي وعلاقته بالسياسة وتدمير الدول وهتك ثقافاتها وتنوعّها وفرض الظلام عليها بواسطة سلاح “قال الله وقال الرسول”، وقد قضى معظم المتنوّرين في السجون والمنافي وفي القبور بسبب فضحهم لهذا المخطط الشنيع، الذي زوّج المتطرفين بكراسي الحكم، وأعلن إمارة روحية يحرّكها الشرُّ والحقد.

بن سلمان، القائد الشاب، الذي يحرّكه الحماس، ومن خلال رفضه وسخطه على وضع بلاده “التي يستهين بها الشرق والغرب معا” قرر التغيير بسرعة فائقة فيما سمّاه “العلاج بالصدمة”، حيثُ يرى أن بلاده يجب أن تجد مكانا لها في هذه الحضارة الكبيرة، وأن يتم استثمار المال في اتجاه المشاريع الصغرى والكبرى، والتنمية، وبناء المدن الصناعية، وأن تتحول السعودية من مجرد مصدّرٍ للطاقة يعتمد على الطبيعة، إلى مشغّل قادر على إدارتها بالبشر، وباعتماده على الكوادر السعودية وإنتاج أشياء أخرى ترفع أسهم الدولة وتعزّز قوّتها. فقد لاحظ “بن سلمان” الفوارق الزمنية والحضارية بين المملكة والعالم، وأن بلاده أكبرُ المتضررين من هذا التضييق السلفي الوهابي الذي شجعه الغرب بيننا لترهيب العدو الشيوعي من جهة، وفرض القوانين الجاهلية من جهة أخرى، ما جعل رؤساء أميركا في مناظراتهم يستخدمون المملكة من أجل الوصول إلى سدة الحكم، حيثُ يتسابقون على جدارتهم في أخذ المال السعودي بأقل تكلفة، باعتبارها لا تملك غير النفط والمال على حسب قول دونالد ترامب مثلا.

لكن الوهابيين في ليبيا لا يختلف وضعهم عن الوهابيين في المملكة، مازالوا تحت تأثير العاصفة التي حلّت بهم بعد اعتراف الهرم الأعلى في السلطة الدينية أنهم مجرد بيادق استخدمتها أميركا في الحرب الباردة ولم تستطع الدولة ولا العالم أن تتخلص منها بعد، فقد خرج من عباءتها الشر والعنف سواء الذي تمثّل في القاعدة أو في داعش أو غيرها من التنظيمات الإرهابية الأخرى التي اعتمدت شكلا معينا من الإسلام وأخذت بفتاوى ومناهج متطرفة لمجتهدين معاصرين وقدامى، وفتحوا صنبور الدم في الشرق الأوسط.

خطوة بن سلمان يجب أن تلقى الدعم من كل المتنوّرين العرب، لأنها تصب بشكل ملموس في مصلحة التغيير المنشود، وتحدّ من خطر هذه الجماعات التي تخلّى مموّلوها عنها أخيرا بعد سنوات من الترهيب والتكفير والتبديع. ولأن خطوة كهذه – مهما بلغ اختلافنا مع بن سلمان أو مع المملكة عموما- ستقضي على آفة انتشرت عدواها بيننا، والذي بات واضحا أنه خسر ظهيره الأساسي، والخوف كل الخوف أن تتحول ليبيا أو إحدى دول الربيع العربي إلى مكب نفايات هذه الجماعة، فتبنّي ورعاية الوهابية الجديدة سيكون أغبى قرار قد يتخذه أي زعيم في حياته، لأنه يراهن على الجواد الخاسر ليس في الغرب فقط ،وإنما حتى في الأوساط التنويرية العربية التي تتقدم كل يوم خطوة مؤثرة وهامة وتكسب الدعم والتأييد الشعبي شيئًا فشيئا، بعد أن جرّب الناس خداع ودجل الإسلاميين بمختلف أصنافهم وأنواعهم، وصُدم بحقيقة “السلفية الوهابية الأمريكية” واكتشفوا الخدعة التي انطلت عليهم بسبب حسن ظنهم وتعاطفهم مع الدين.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى