كتَـــــاب الموقع

الديمقراطية في ليبيا

عمر أبو القاسم الككلي

كانت أمي لا تحفظ “خُرَّافات” كثيرة. فعدد الخرافات التي كانت تحفظها لم يكن يصل، حسب ما أتذكر، إلى عدد أصابع اليد الواحدة. وعندما كنت أطلب منها أن “تُخَرِّ فنا” كانت تقول: “علاش تبي نخرفكم؟. على هم قلبي؟!” وكان الرد المطلوب منا على هذا السؤال: “خرفينا حتى على هم قلبك!”. رغم أن التخريف على هم القلب ليس مسليا، ونحن نطلب تسلية، حتى لو كانت مكررة.
إحدى الخرافات التي كانت تحفظها وكثيرا ما كررتها علينا، كانت خرافة تعليمية تنبه الطفل إلى كيفية تعامله مع المجتمع وماذا يقول للناس في المواقف والمناسبات المختلفة. شحصية الخرافة اسمه “سي بن سي” وهو شخصية تظهر فجأة ولا ماضي لها. ولفظة “سي” بالأساس اختصار للفظة “سيد”. فهو سيد بن سيد. ولقب سيد هنا لا علاقة له بالرفعة الاجتماعية والنبالة، وإنما هو مجرد مخاطبة تراعي الأصول. ويمكن تأويل “سي بن سي” على أنه “س بن س” بحيث يدل على المجهولية.

تبدأ الخرافة بالمفتتح التالي: “على سي بن سي، مد كراعه جي يمشي!”. فهو شخص “ينبت” فجأة عديم الإرادة ولا يعرف حتى المشي، إذ إنه “مد كراعه” صدفة فوجد نفسه يمشي. وهو لا يعرف من أمور الحياة شيئا، إذ ليست له خبرات من أي نوع.
أثناء مشيه يمر بأشخاص يقومون بعمل ما، فلا يكلمهم. عندها يقومون بضربه بسبب عدم التحية وقول ما يجب أن يقال عرفيا بخصوص عملهم. فيسألهم عما كان ينبغي عليه قوله، فيلقنونه ذلك ويمضي في طريقه. يمر بأشخاص آخرين يقومون بعمل من نوع آخر فيخاطبهم بما لقنته له المجموعة السابقة. فيهجمون عليه ويشبعونه ضربا لأن ما قاله لهم يعتبر إساءة بالغة، كأن يقول شخص في عزاء “مبروك ما درتو!”.
وتمضي الحكاية على هذه الشاكلة وفي كل مرة يتلقى الضرب. إنه،على خلاف الأطفال، يتعلم عن طريق الضرب. فالمعرفة مشقة ومعاناة.
**
هذه الحكاية أحالتني إلى ما يمر به الشعب الليبي، أو نسبة غالبة منه، حاليا.
فوضع الشعب الليبي، في علاقته بالديمقراطية، بعد 2011 تكاد تطابق علاقة “سي بن سي” بالمواضعات الاجتماعية. ذلك أن علاقة الشعب الليبي بالديمقراطية، طوال تاريخه، شبه منعدمة. التجربة التي كانت لها علاقة بالديمقراطية في العهد الملكي بعد سنة 1952 كانت تجربة ذات ديمقراطية عرجاء عرجا بينا. فالملك حظر الأحزاب سنة 1954، ولأن العمل الحزبي المنظم لم يكن متجذرا في ليبيا تقبلت الأحزاب هذا الحظر ولم تنزل إلى العمل السري. وسبب ذلك، إضافة إلى سبب عدم التجذر، هو أنها أحزاب أملاها هدف إدارة النضال السلمي من أجل الاستقلال وتوحيد البلاد، ولم تكن أحزابا تؤطرها رؤى فكرية وتتبنى برنامجا سياسيا واقتصاديا واجتماعيا. والأحزاب التي كانت تمتلك نظرية فكرية سياسية وبرنامج عمل كانت فروعا إما لأحزاب قومية (تحديدا: البعث والقوميين العرب) أو دينية (تحديدا: الأخوان المسلمين وحزب التحرير الإسلامي) ولقد ضُرب الحزبان القوميان سنة 1961 (حزب البعث) وسنة 1968 (حركة القوميين العرب). إلا أن اللافت للنظر أن الحزبين الإسلاميين لم يتعرضا إلى المطاردة والضرب. ونحن طبعا لا نتمنى لو أنهما ضربا، ولكننا نرى أن وضعهما هذا يستدعي الفحص والتحليل. فهل حدث ذلك لأنهما كانا أمهر في انتهاج السرية والتخفي، أم أن النظام الملكي، أو أجهزته الأمنية، غضت عن نشاطهما المتابعة لسبب ما.

بعد الإطاحة بالنظام الملكي واستيلاء العسكر على السلطة جرى الإفصاح منذ الأسابيع الأولى عن معاداة الحزبية والعمل الحزبي عبر أول خطاب لقائد الانقلاب معمر القذافي من خلال جملته الشهيرة “لا حزبية بعد اليوم ومن تحزب خان”. ثم حدثت عملية تمشيط في ما سمي “الثورة الثقافية” سنة 1973 أتت على ما يمكن أن تكون أحزابا وأنوية حزبية، لعل أبرزها حزب الأخوان المسلمين وحزب التحرير الإسلامي. لكن النظام الجديد عامل الأخوان المسلمين بلين واضح حيث لم يستبق الأعضاء المعتقلين منهم، وهم قادة، في المعتقل طويلا.
اللافت للنظر، هنا أيضا، المعاملة اللينة المتسامحة التي تعامل بها معمر القذافي مع الأخوان المسلمين. وقد صرح في الخطاب الذي ألقاه في ندوة الحوار الإسلامي – المسيحي التي انعقدت بطرابلس سنة 1976 أنه لا خلافا فكريا له مع الأخوان المسلمين، والخلاف الوحيد أنهم يريدون حزبا وهو ضد الأحزاب. وقال أن موقفه من الأخوان المسلمين يتوافق مع موقف جمال عبد الناصر منهم. فالأخوان المسلمون هم الذين بادروا عبد الناصر بالعداء وحاولوا اغتياله.
ومعروف أن عددا من كبار قيادات الأخوان المسلمين الليبيين، من مثل د. إبراهيم الغويل ود. محمد أحمد الشريف ود. محمد المقريف، قد ناصروا النظام أو تقلدوا مناصب في مراكز الدولة العليا. وأن قطيعة الأخوان المسلمين مع معمر القذافي حدثت بعد 1977 حين أمم التجارة وظهر بمقولة “البيت لساكنه” و مقولة “شركاء لا أجراء” المنادية بتمليك المصانع والمواقع الإنتاجية للعاملين فيها. وتأسيس “جبهة الإنقاذ الوطني”، التي هيمن عليها الأخوان المسلمون، جرى في هذا الإطار.

بعد سقوط نظام القذافي في 2011، وجد الشعب الليبي نفسه فجأة في ساحة الديمقراطية. إلا أنه، مثله في ذلك مثل “سي بن سي”، أخذ، بسبب عدم خبرته بالديمقراطية، يتلقى الضربة تلو الأخرى. بداية من المجلس الوطني الانتقالي الذي احتوى عددا لا بأس به من عناصر الأخوان المسلمين، ثم المؤتمر الوطني المنتخب الذي سيطر عليه الأخوان المسلمون فعلا، رغم عدم فوزهم في الانتخابات، ثم البرلمان الذي تحكم في مصيره، وبالتالي مصير الشعب الليبي، “بوعكوز”!، ثم هيئة صياغة الدستور التي تمخضت عن مشروع دستور داعشي يتنافي مع حقوق الإنسان غير القابلة للتصرف.
وإذن، فإن تجربة الشعب الليبي مع الديمقراطية كانت مع ديمقراطية عرجاء أثناء العهد الملكي، أو ديمقراطية شائهة معاهة بعد 2011.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى