كتَـــــاب الموقع

“الحكمة بالتجزئة والجنون بالجملة”

سالم العوكلي

1

في عالم الضباع، إذا غاب ذكر القطيع، فترة التكاثر، فإحدى الإناث تتحول مؤقتا إلى هيلع ذكر لتؤدي المهمة ثم تعود لطبيعتها.

ويبدو أن غياب ذكر المرحلة (البرلمان) عن القطيع السياسي في فترة الخصوبة التوافقية هو ما جعل المؤتمر الوطني يتحول جنسيا ليقوم بالمهمة. تشبه طقوس هذا التحول الجنسي لطقوس اجتماع بقايا أعضاء المؤتمر الوطني المنتهية ولايته، وغير المعترف به، ليحل محل مجلس النواب النائم في العسل ويجري التعديل الدستوري، ثم فجأة يتحول إلى مجلس (أعلى) للدولة، في ظاهرة جديدة لم تشهدها ديمقراطيات العالم ولا دكتاتورياته.

كما ذكرني هذا التحول، أو التحور، بالرجل الأخضر في الخيال السينمائي، أو بالرجل العنكبوت ، أو بالرجل الذئب الذي فجأة تتغير ملامحه الإنسانية ويظهر له شعر على جسده ومخالب في يده وأنياب طويلة في فم فاغر يتدلى منه اللعاب الذئبي. أو بمعنى آخر يشبه هذا التحول التطور الفجائي لفيروس الإنفلونزا إلى فيروس إيبولا في مختبرات التلاعب الجيني . وكل شيء يؤكد أن ليبيا يأتي منها الجديد والمدهش وكل ما يمخول العقل.

2

العديد من الذين تم انتخابهم نوابا بالمؤتمر الوطني، أو مجلس النواب، لا يستطيعون العودة بتاتا إلى المدن أو الدوائر التي انتخبتهم ممثلين لها، خصوصاً في بنغازي ودرنة، والسبب كون بعضهم غشوا ناخبيهم، حيث طرحوا أنفسهم مرشحين مستقلين ليتضح فيما بعد أنهم خلايا نائمة لجماعة الأخوان، والبعض فر من مدينته وشارك في إرسال أسلحة وذخائر لقتل ناخبيه.

3

الإرهاب لا دين له، لكن الإرهاب له دولة في ليبيا. له إعلان دستوري، ومؤتمر وطني عام منتخب، وحكومة إنقاذ، ومجلس دولة ، ومصرف مركزي، وميزانية معتمدة، ومفتي ديار يتقاضى مرتبا ضخما، وقنوات فضائية تسمي الإرهابيين ثواراً.

4

“أصبحنا في موقع العقلاء والحكماء حين ننشغل بأمور تافهة ، لكننا نقامر كالمجانين إذا واجهتنا قضايا جادة : الحكمة بالتجزئة والجنون بالجملة” عندما قرأت هذا المقطع للفيلسوف، ليو ستراوس، في كتاب: نهاية اليوتوبيا. لراسل جاكوبي وترجمة فاروق عبدالقادر. تذكرت نوابنا في المجالس النيابية المتعاقبة وفي هيأة الدستور، الذين كانوا يناقشون بحكمة وتعقل وهدوء بند ميزاتهم ومرتباتهم ومهاياهم ، ويمارسون الجنون بالجملة حين يناقشون بنودا تتعلق بمستقبل ليبيا ومصير شعبها.

5

الرئيس التونسي السابق، زين الدين بن علي، مازال حياً يُرزق، لكنه اختفى من المشهد تماما، لدرجة أننا نسيناه، والسبب أن من قادوا بناء الدولة التونسية الجديدة بجدارة لم يعطوا فرصة للحنين إلى نظامه، أو فرصة له كي يخرج هو أو رجاله ليشمتوا ويزايدوا.

المجرمون الذين أجرموا في حق الليبيين لعقود يخرجون في كل وسائل الإعلام بعين قوية، وبشماتة ومزايدة لا نظير لهما، وسبب زهوهم ومزايدتهم وشماتتهم أن من قادوا بناء الدولة الليبية الجديدة كانوا أكثر منهم إجراما .

زين العابدين حي يرزق لكنه اختفي، والقذافي الذي مات وأُخفيت جثته مازال حاضرا بقوة. لأن سقوط النظام يعني سقوط ثقافته وفكره وأساليبه في الحكم وليس اختفاء رجاله فقط.

6

السراج فاخر بأن القوات الأمريكية تقصف من الجو ولم تطأ أقدامها الأرض الليبية ، والأمر شبيه بمن يفاخر بان من دخل غرفة نومه كان طوال الوقت فوق السرير ولم تطأ أقدامه أرض الغرفة . أقول للسراج، ولمن يعتبر السيادة الليبية مجرد يابسة، أن سيادة ليبيا، التي انتهكت منذ 19 مارس 2011 ، تتكون من أرض وهواء وماء، وراجعوا أرشيف الصدام الليبي الأمريكي في خليج سرت، العام 1981 والعام 1986، لتعرفوا ماذا تعني السيادة الليبية.

التفريط في السيادة الوطنية إحدى المصائب التي تجعل من خدام النظام السابق يظهرون بعين قوية .

7

حين صرح الصحفي الأميركي : رود نوردلند، باجتماع المدعو جضران مع أحد أعضاء السي آي أي في إجدابيا العام 2012 ، عرف القاصي والداني أن جضران مجرد (غفير على أبار النفط الليبي) تم تعيينه من قِبلهم كي يحميه لهم حتى تستقيم الأمور.

ثم جاءت اجتماعاته المتتابعة مع الملحق العسكري الأميركي في ليبيا، مارك استيدستون، والملحق العسكري البريطاني في ليبيا وتونس ، دوقي هي، ليؤكد أنه يستقبل رؤسائه دوريا لطمأنتهم عن ثروتهم . أما تلك القوى فتكذب حين تتحدث عن الشرعية أو الديمقراطية أو مستقبل الشعب الليبي، ولا مانع لديها أن تتعامل دبلوماسيا مع الميليشيات الخارجة عن القانون من أجل مصالحها. إنها قوى تدعم ميليشا الحشد الشعبي الطائفي في العراق بالأسلحة وتمنع تسليح الجيش الليبي الوطني الذي يحارب الإرهاب، والمشكل وفق قرار من مجلس النواب المعترف به دوليا كسلطة تشريعية وحيدة في ليبيا. بل أن هذه القوى استنكرت في البداية سيطرة الجيش على الهلال النفطي لأنه طرد (غفيرهم) المكلف من قبلهم.

8

ثمة خرافة تروج في وسائط الإعلام مفادها أن المجتمع الدولي تخلى عن ليبيا بعد أن أسهم في القضاء على النظام السابق. في الواقع لو كان المجتمع الدولي تخلى عنا لما وصلنا لهذه الأزمة، ولكن تدخله على جميع الخطوط ودعمه لما يسمى بالإسلام السياسي ـ وهذا معلن وليس خافيا ـ من أجل تمكينه من الوصول إلى السلطة، هو ما أوصل ليبيا لهذه الأزمة.

9

ثمة صراع حقيقي في ليبيا بين الظلام والضوء. الظلاميون هم من يزرعون المفخخات في دروب وبيوت هذا الوطن ، والنورانيون هم عمال وفنيو الكهرباء الذين يصلحون الأعطال في ظروف خطرة. سينتصر في النهاية سدنة الضوء لأنهم يربطون ليبيا ويوحدونها بشبكة النور الممتدة في كل أرجائها.

10

العدميون، حين تحدثهم عن نهوض ألمانيا واليابان بعد الحرب، يقولون هؤلاء ألمان وليسوا ليبيين، وحين تحدثهم عن الليبيين الذين بنوا دولة الاستقلال ووضعوها على الطريق، يقولون هذا زمان وجيل مختلف ، وحين تحدثهم عن ثمن الحرية وعن المستقبل، يقولون هذا شعب يبي عصا.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى