كتَـــــاب الموقع

الحسد والإبداع

عمر أبو القاسم الككلي

عندما نستعيد وقائع حياتنا، خصوصا مجريات فترة الطفولة، ونتأملها، فإننا كثيرا ما نعيد بناءها على ضوء خبراتنا الحالية. ليس بمعنى أننا نعدلها ونحورها ونحذف منها ونضيف إليها، وإنما بمعنى أننا نفسرها ونحللها من زوايا جديدة، غالبا لا تكون محسوسة، على الأقل بوضوح، وقت وقوعها، ونستنتج منها دلالات جديدة لم تكن واضحة لنا أثناء جريان الحدث.

بالنسبة إليَّ، تتجلى هذه الحالة في استعادتي لبدايات انتباهي إلى أهمية وخصوصية الكتابة. ليس الكتابة الأدبية أو سواها، وإنما الكتابة من حيث هي معرفة بالحروف ونظمها في كلمات، والقدرة على تبين الحروف وقراءة الكلمات حين تصادفني.

بدأ هذا التطلع، واشرأبت هذه الرغبة في سن مبكرة، قبل دخولي المدرسة.

كان أخي الأكبر مني سالم قد حظي بإلحاقه بالمدرسة، ولأننا كنا نسكن منطقة ريفية لا توجد بها مدارس قريبة، فقد أودعه أبي عند أسرة خالي بالمدينة. كان يأتي إلينا فقط في العطلات، وكنت منبهرا بقدرته على الكتابة والقراءة. كان مفهوم التعلم غامضا لديَّ. انبثق لديَّ اعتقاد أنه يمكنني أن أكتب أنا أيضا كتابة لا أعرف محتواها ولا أستطيع قراءتها!. إذا لم يكن بمستطاعي أن أقرأ فربما كان بمقدوري أن أكتب، وتكون مهمة القراءة من اختصاص من تعلم الكتابة والقراءة!.

لذا كنت آخذ ورقة وقلما وأخط (لا أريد أن أقول أخربش) عليها شيئا. كانت تبدو لي كتابة شبيهة بكتابة أخي. لذا كنت أطلب منه أن يقرأها. فينهرني دون أن يتلطف بالنظر إليها.

ذات مرة أريته كتابتي بحضور أمي. فلم يهتم. قالت له أمي:

– شوف شن كتب خوك!. بالك كتب حاجة!.

فرد عليها:

– شن نشوف؟!. هذا تخربيش وخلاص!.

عندها انقشع وهمي بأنني فعلا أكتب شيئا لا أعرف ما هو يقرأه متعلمون.

إعادة البناء هنا تتمثل في أن ما كان يحركني في العمق، هو الحسد الذي اعتراني إزاء أخي بسبب امتلاكه معرفة وقدرة لا أحوزهما، وأنه بسببهما يحظى بمكانة خاصة لا أحظى بها في الأسرة، بما في ذلك أن ملابسه أفضل من ملابسي. لم أكن واعيا بمشاعر الحسد آنذاك. كنت مهجوسا فقط بأنني ربما أمتلك موهبة الكتابة، والشوق إلى امتلاك هذه الخاصية السحرية. خاصية القدرة على الكتابة، ومن ثم القدرة على القراءة.

ولقد أدى هذا الحسد (بعض المدققين سيسمونه غبطة، وليس حسدا، لأنني لم أكن أتمنى زوال هذه القدرة من أخي) دورا إيجابيا في تعلقي بالقراءة والكتابة حين دخلت المدرسة وتوجهي، من سنوات الدراسة الأولى، إلى “التأليف”.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى