اهم الاخبارمقالات مختارة

الحزّاز

مأمون الزائدي

الحزّاز مصطلح يعرفه الليبيون جيداً. إنه الشخص الذي (يحز) أو يفض النزاع أو الخلاف قبل أن يشتد وحتى بعده…وهو من المهارة بحيث يقترح بل ويفرض على المتنازعين حلاً كان يمكنهما التوصل إليه لوحدهما ولكن أسلوبه ومكانته المحايدة افتراضاً تضطرهما إلى موافقته وربما لأنه يوفر بوجوده بينهما سبباً لحفظ ماء الوجه وهو ماء خرافي لا بد وأن يكونا قد أهدرا ما هو أثمن منه خلال نزاعهما ذاك.

والحزّاز الجيد يعرف ذلك وفى أغلب الأحوال يقسّم إرضاء الطرفين الذي كان يبدو مستحيلاً وغير ممكن إطلاقاً إلى قسم مادي ومعنوي ويهمس مُذكّراً كل واحد يحتجّ عليه ليس بما فقد بل بما كسب وربح. الحزاز لا يكون محقّاً أحياناً كثيرة ولا صلة كبيرة له بالعدل أحياناً أخرى ولكنه يستطيع فض النزاع بطريقة لا ترسّخ واقع المنتصر والمهزوم بل يقلب الموقف إلى طرفين منتصرين على الواقع. ولا يكتفي بذلك بل يدعوهما إلى لعن الشيطان الذي تناله اللعنات على الدوام حتى وإن كان مشغولاً بالتسبب بشرّ آخر ولم يكن وراء ذلك النزاع. كما يطلب من الطرفين إعلان قبولهما بطريقة تحافظ على التقاليد التي أتت به لهذا الدور.

ولذلك يتقن الحزّاز الناجح لغة قومه وينجح في جعل الخلاف يتضاءل ويختفي كجمرة صغيرة لا ينفع حرص فئة من الموتورين بعده في جعل أوارها يستعر وإن نفخوا فيها أعمارهم كلها. رغم أنها تبقى كندبة يحملها الجسد من طفولته، غامضة وغير جميلة ولكنها لا تؤلم.

الحزّاز يفهم ما يريده كل طرف فينكر الطلبات غير المشروعة ويوفر ضمانات للمخاوف لكنها مشروطة بتفويضه التام. وهو شرط مهم لمنع الاجتهاد الخاطئ غير الناجم عن التجربة، فيلبي الحاجات الملحة أولاً. يستطيع الحزّاز ذلك لأنه يعرف ويفهم الرسائل المشفرة في النزاع، و يعي الفرق بين الرغبة والحاجة وبين الفعل ورد الفعل .والأهم من ذلك يتقمص وضع كل طرف فيبين له أولاً ما ينبغي له وما يفترض أن يناله، كي يستميله بتصغير أخطائه أو إيجاد مبررات معقولة لها ويضخم حسن نواياه وخطأ الطرف الآخر في فهم هذه النوايا مستنداً في ذلك إلى المتعارف عليها والجيد والمعقول حتى ينجح بذلك في صنع إطار مثالي وهمي كبير يحبس المتخاصمين داخله ويتمكن به من جعل كل طرف يتراجع في دخيلته مدركاً كم هو ضئيل مقارنة بما يقال عنه و يجعله ذلك الشك والتردد واعيا تماماً حجم خطئه ومدى فداحته و متفهماً أكثر لتصرفات الطرف المقابل. ومهيأ للقبول بتقديم التنازلات المطلوبة منه.

وبالتالي جل ما يفعله الحزّاز الجيد وسر قوته تقريباً هو توليد الشعور بالذنب وتخليق الإحساس بالعار. أو بطريقة ما زرع بذور كراهة الذات وهو أمر فظيع جداً عندما يحصل لبدوي، لا تقوده في هذه الحياة ولا تُوازنه سوى شيفرة معلنة متضافرة عبر أجيال متعاقبة من إعلاء الذات والفخر حتى باعوجاج الأنف. يفعل ذلك لمعرفته بشخصية المتنازعين في براغماتية صرفة مستثمراً نجاحاته السابقة. ومحافظاً مع ذلك على مستوى معين من اللامبالاة والاستنكار المبطّن يستخدمهما ليعزز موقفه المحايد وليضغط لتقوية شعور مستمعيه بالذنب.

الحزّاز يقول سراً إنك موضع شك، ونجاحك في البقاء وسط هذا الخراب الذي يحيطك وفخارك به ليس شريفاً إذا تبين أنك مخطئ ومعتد وبالتالي فإن قيمتك المعنوية لا تساوي شيئاً وهي كارثة لا تحتمل سواء عند من لا يملكون شيئاً وليس أمامهم سوى تلك القيمة المعنوية أو عند من يملكون كل شيء وبالتالي لا ينقص كمالهم سوى تلك القيمة الثمينة. يدفع ذلك بالمتخاصمين إلى التصالح هرباً من تطور الأمور وتعقّدها ثم اكتسابها أبعاداً قد تجعل كل طرف مضطراً لفعل ما سيكلل سلالته بالعار إلى الأبد.قد يوثّق بمنحها لقباً سرياً مخزياً وقصصاً تتناقلها الأجيال.

تذكرنا بكل ذلك رقصة شعبية من التراث الليبي تؤرّخ للحزاز. وهي رقصة يرقصها الليبيون حالياً في نسخة لا تستوحى التقاليد بقدر ما تمجّد العبث. ليست أبداً على أي درجة من الجمال ولكنها تبقى (كاسكا) من نوع ما. تجعلنا نتوجس ونحن نتابعها من دور الحزّاز الذي دائما وفى كل كاسكا سيأتي ليفضّ الخلاف ويغير طبيعة الرقص.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى