كتَـــــاب الموقع

التمرد الأعلى للشعر

المهدي التمامي

“الوزن والقافية، لا يُمثّلان وحدهما حصرًا، الشعرية، ولا يستنفذانها، وثمة عناصر شعرية غيرهما، والشاعر الخلاق جديدٌ دائمًا، حتى حين يكتب بأشكالٍ وزنيةٍ سابقة.. وإذا كان الشكل بنيةً حركيةً؛ فإن المهم هو النسغ الذي يجري في هذه البنية ويجريها، لذلك فإن الشكل ليس هدفًا أو غايةً، الهدف هو توليد فعالية جمالية جديدة، والأمر الأساس هو أن ننظر، في تقويم الشعر، إلى هذه الفعالية، لا إلى الجدّة الشكلية في ذاتها ولذاتها، سواء كانت وزنًا أو نثرًا.. إن المسألة في الكتابة الشعرية لم تعد مسألة وزن وقافية حصرًا؛ بل أصبحت مسألة شعر أو لا شعر…”

هكذا رأي أدونيس المسألة الشعرية، إذ لم يتجاوز، أو ينتقد، مفهوم القصيدة الظاهري، لكنه ظلّ ينظر لقصيدة النثر كـ”تمرد أعلى” في نطاق الشكل الشعري، وباعتبارها، والكلام لأدونيس، أرحب بما توصل إليه توق الشاعر الحديث على صعيد التكنيك وعلى صعيد الفحوى، مستفيدًا باعتراف صريح من كتاب سوزان برنار الشهير “قصيدة النثر من بودلير حتى الوقت الراهن”، الذي ما يزال يتمتّع بسلطة مرجعية، شعرية ونقدية أساسية، بل إنه المرجع الأهم للشعرية العربية الحديثة، رغم أن شاعرًا آخر، هو أنسي الحاج، الذي يعتبر مقدمة ديوانه “لن” هي أول وثيقة في قصيدة النثر المكتوبة في اللغة العربية حول قصيدة النثر العربية، يذهب إلى أن هذه الاستفادة التي أشار إليها أدونيس، هي “استقواء” جرّ كثيرًا من الاتهامات بخصوص أصالة قصيدة النثر العربية، مؤكدًا في النهاية أنه لا أحد في مشاريع الخلق يحتاج إلى مراجع.

نحن، بالتأكيد، مع ضرورة وشرعية تنويع أفق التجريب الشعري، حيث استطاع هذان الشاعران أن يخلقا سحرًا شعريًا، ما يزال يمارس سطوته، حتى الآن، على الأجيال الجديدة، أنسى الحاج في مقدمته/البيان، التي صاحبتها نصوص لن، وأدونيس في دراساته العديدة واجتهاده في اكتشاف جذور عربية لنثرية الشعر، خصوصًا في علاقته مع الصوفي الشهير “النفّري”، ومواقفه الإشراقية؛ إلا أن العديد من متتبعي هذين الشاعرين، خصوصًا نقاد المغرب العربي، يشيرون إلى الاستفادة المباشرة، بصيغ مختلفة، من كتاب سوزان برناد الشهير حول قصيدة النثر.

وهنا تجدر الإشارة إلى الاسم المغربي الأهم، صاحب التنظير الشعري الصارم، محمد بنيس، الذي يُعتبر أن الحداثة الشعرية العربية عثرت على محتملها بحافز من الشعر الأوربي وفي نموذجه، فبينما كان الغرب الشعري ممتلكًا لمعيار الشعر وتعريفه؛ كانت الشعرية العربية ما تزال غارقة في المرحلة الرومانسية، بل إنه يذهب، في هذا السياق، أحيانًا، إلى أن كل من حاول العودة بقصيدة النثر إلى جذورها العربية؛ كان مصباحه الكاشف هو كتاب قصيدة النثر لسوزان برنار، الذي اكتسب سلطة نقدية أكاديمية، دعمت قصيدة النثر العربية المعاصرة، وأضاءت نصوصها الغائبة الحالمة بلحظة زمنية كبرى، كما حدث مع النثرية الفرنسية تحديدًا، عبر بودلير، ومالارميه، ورامبو، وفيرلين، وبونفوا… وسان جون بيرس، هذا الأخير، الذي تشربه أدونيس بشغفٍ بالغ، من هنا جاء الغياب الذي أشرت إليه، مستدرجًا نصوصًا أخرى غائبة.

ومن خلال تخطيط مختصر لقصيدة النثر الفرنسية كما أشارت إليها سوزان برنار، فإن بودلير حاول أن يقتفي أثر الجانب الهارب والنسبي من الجمال، والمتنوع مع كل عصر، عبر تجريب شخصي، وإلهام شعري أوحت به “مخالطة المدن الكبرى بفراديسها الاصطناعية، وكافة الأصداء وكل تنافرات الأصوات”.. إنها لحظة الاختراق الشعري وتبادل الأدوار، وجدلية الحق بين الإيحاء والتجسد، ومحاولة إيجاد ما يكفي من التنافر الموافق لغنائية الروح، وانتفاضات الوعي، وباختصار؛ فإن بودلير نفخ شعريته في قلب اللغة إلى نثر مكثف، رغم أن من يكثفه هي أنا الشاعر الواسعة في عبورها المتوتر مع موضوعات المدن الكبرى.

ربما كان من الضروري هنا أن أتحدث عن تجربتي الشخصية مع شعراء آخرين في مقدمتهم مالارميه، في “رمية نرد” وهو يطارد المطلق، مبتعدًا عن النمط، وغير مؤمن بالعدم كنقطة نهاية، بل كنقطة انطلاق مدركاً تلك العلاقة الوثيقة بين الشعر والكون، إذ سعى جاهدًا للوصول إلى أصفى لحظات التركيب الغريبة، وفي الوقت نفسه، نابذًا الصدفة التي تكمن في الكلمات. أما الشاعر الآخر فهو آرتور رامبو، الشاعر الأثير عندي، ومبدأ اختلال الحواس، أو تشويش الحواس كما يُقرأ في العربية، خصوصاً في أثره الشهير “رسالة الرائي” المستفيضة التي حاول، من خلالها، شرح فكرته حول الشعر وإمكانية الوصول إلى المجهول عبر تشويش هائل ومدروس لكل الحواس، وعبر استنفاد كل أشكال الحب والمعاناة والجنون، وذلك بعد أن تتجه الأنا نحو تغريبها، بحيث تكون محل عبور لإرادات أخرى.

وبما أن المجال الصحفي هنا لا يتسع للكتابة أكثر؛ فسأكتفي بذكر تعريف مهمّ للشعر الحديث، ذكره “رولان بارت” في كتابه الشهير درجة الصفر للكتابة، اعتبره من أهم الشهادات التي قرأتها حول الشعر الحديث وغيره، حيث يقول بارت: الشعر الحديث هو شعر موضوعي، تصير فيه الطبيعة تقطعًا للأشياء المتوحدة الرهيبة، لأنه ليس لها إلا روابط تقديرية، ولا أحد يختار لها معنى محظوظًا أو وظيفة أو خدمة تؤديها. كذاك، فإن أحدًا لا يفرض عليها سلّمًا ترتيبيًا أو يختزلها في دلالة سلوك عقلي أو نية معينة؛ بمعنى أنه لا يرجعها، في نهاية الأمر، إلا حنان ما، ليست هناك نزعة إنسانية شعرية في الحداثة، فهذا الكلام المنتصب مليء بالرعب، أي أنه يجعل الإنسان على صلة ليس بالآخرين، وإنما مع صور الطبيعة الموغلة في اللاإنسانية مثل “السماء، الجحيم، المقدس، الطفولة، الجنون، والمادة الخالصة”.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى