أخبار ليبيااهم الاخبار

“الترهوني”: العربية مرنة ولا أتعامل مع النصوص الأدبية بمعايير “أخلاقية ودينية”

خاص 218| خلود الفلاح

فرج الترهوني كاتب ومترجم ليبي، يرى أن الترجمة ما هي إلا إعادة خلق للنصوص بروح جديدة ولغة جديدة، في أواخر التسعينيات وقعت في يده نسخة من رواية “مائة عام من العزلة”، بترجمة سيئة، فكان أن حفزه ذلك إلى دخول عالم الترجمة. يستمتع بقراءة النصوص الشعرية المترجمة ولكنه يخشى ترجمتها، موضحًا: “الاقتراب منها محفوف بالمخاطر”.

في هذا الحوار؛ يتحدث المترجم فرج الترهوني عن حبه لترجمة الروايات، وكيف أن ظروف المجتمعات المختلفة تفرض قيودًا على اختيارات المترجم هذا إلى جانب الحصول على ناشر جريء ومغامر.

– رواية “الشاطئ الرابع” للكاتبة البريطانية فرجينيا بايلي “تحت الطبع” عن دار الفرجاني، تتحدث عن فترة الاحتلال الإيطالي، يختلط فيها الحقيقي بالخيال الروائي.. ما الذي دفعك لترجمة هذه الرواية؟

في الغالب انتفى أي دورٍ للمترجم في اختيار النص الذي يرغب في ترجمته، وإن كانت هذه الميزة قد أتيحت لي من خلال عدة أعمال، فقد حالفني الحظ ولعبت الصدفة وحدها دورًا في العثور على ناشر لتلك الأعمال، الخلاصة أنّ اختيار المترجم لعمل يحبه ويعكف على ترجمته بشغف لم يعد متاحا وأنّ دوافع المترجم ورغباته وتفضيله للعمل لم تعد هي ما يحدد خياراته، بل هناك من يختارُ له الكتاب وهو الناشر الذي يشتري حقوق الترجمة، وهذا بالطبع عمل مؤسّسي يفوق إمكانات المترجم الذي يُصبح مرتبطًا بالناشر الذي يكلفه بالترجمة، وليس له خيار سوى قبول العرض أو رفضه، وهذا انطبق تمامًا على آخر رواية ترجمتها وهي “الشاطئ الرابع” للكاتبة البريطانية فرجينيا بايلي “تحت الطبع” عن دار الفرجاني التي اختارتني، مشكورة، لترجمتها.

– هذه الرواية مليئة بالتفاصيل عن الأكل الليبي، وأزقة المدينة القديمة في طرابلس، المعارضة الليبية في الخارج، روما، وجنيف، فريدة، ستيفانو، وسعيدة، ونادية، وليليانا أجيال تم خلالها سرد ما حدث فترة الاحتلال وما بعدها.. هل يمكن القول إنها رواية ليبية؟

من الصعب وصف “الشاطئ الرابع” بأنها رواية ليبية، لكن يمكننا القول إنها تتعلق في مجملها بليبيا، وقد أجادت الروائية البريطانية في وصف تفاصيل دقيقة للحياة الليبية، إبان فترة الاحتلال الإيطالي، ومعاناة ليبيا الإيطالية من أجل أمجاد روما وأوهام الفاشية في “الشاطئ الرابع”. فبين روما وطرابلس وبنغازي والجنوب الليبي تأخذنا الرواية صحبة بطلتها الايطالية في رحلة اكتشاف ومعاناة لليبيا “الايطالية” وهي تتأسس بالقوة وعلى حساب أرواح الليبيين.

ويقول الكاتب والروائي منصور بوشناف في قراءة لترجمتي:كل هذه التفاصيل القاسية تسردها الرواية بدقة عالية حتى توشك أن تكون وثيقة تاريخية على تلك المرحلة المرعبة من تاريخ ليبيا، هي أيضًا مسح انثربولوجي لتفاصيل الحياة الليبية من عادات وتقاليد، ووصف تفصيلي للأكلات والملابس والحِرف والأسواق بشكل دقيق ومتقن.

وعن التماهي في السرد بين فترتين فاشيتين مرتا بليبيا، من “عقيد إيطاليا الفاشي” في الثلاثينيات من القرن الماضي إلى “العقيد الليبي” في ثمانينيات القرن العشرين، ومن غارات العقيد الإيطالي على الليبيين “الهاجّين” باتجاه الصحراء هربًا من قمع وتنكيل الاحتلال، إلى حملات الاغتيالات التي يشنّها العقيد الليبي في نهايات القرن العشرين على معارضيه الهاجّين إلى أوروبا هربًا أيضًا من البطش والتنكيل “الوطنيين” تتنقل بنا ساردة وبطلة هذه الرواية.

– هناك أعمال مترجمة اكتسبت شهرتها بل ونجحت. برأيك هل اكتسبت هذه الشهرة بسبب اللغة المترجم إليها أم مهارة المترجم؟

· لا شك أن مهارة المترجم وامتلاكه لناصية اللغة في النص المُستهدف، لهما دور كبير في ظهور العمل بشكل لائق ونيل رضا القارئ؛ فلا يكاد يشعرُ أحيانًا أنه يُطالع عملاً مترجمًا، لكن براعة كاتب النصّ الأصلي وصاحب العمل في السرد هي المعيار الأول للجودة التي يضفي عليها المترجمُ شيئًا من إبداعه في النقل والصياغة والتأويل.

– هل تهتم بترجمة أعمال الأسماء المشهورة فقط؟

اختيار النصوص لترجمتها ترفٌ لم يعد متاحًا في زمننا الراهن، حيث تتعرض العملية الترجمية للعديد من العوامل التي تفرض واقعًا جديدًا، والخلاصة أنه لم يعد هناك خيار للمترجم في اختيار نصوصه، وربما تتاح هذه الميزة لقلّةٍ من الأسماء اللامعة في عالم الترجمة الذين قد يفرضون على الناشر اختيار عملٍ محدّد يروق لهم.

– هل لديك طقوس خاصة لحظة الترجمة؟

الشروع في ترجمة عملٍ جديد يمرّ بمراحل عدة أولها قراءةُ النصّ ومحاولة استيعابه والتعرف على الشخصيّات المختلفة وتفهّم رؤية الكاتب وأسلوبه في عرض هذه الشخصيات وفي رؤيته العامة للقضايا التي يطرحها، ومحاولة فهم جميع جوانبها، ثم إعادة صياغته بلغة مفهومة، مع الحرص على المحافظة على المعاني والأفكار التي طرحها الكاتب.

– نص واحد وترجمات متعددة، أقصد هناك أعمال لها أكثر من ترجمة، هل يعني ذلك غياب سياسة ذات برنامج منظم في نشر الكتاب المترجم؟

لا أعتقد أن الإنتاج الأدبي بأنواعه يمكن أن يخضع لسياسة لها برنامجٌ محدّد في نشر الكتاب، إلاّ في المؤسسات التي تتبع للدولة، لكن هذا النهج قد يعرّض عملية النشر لأهواء السياسة وغيرها، كما هو معروف في كل البلدان التي طُبق فيها هذا النهج وغالبًا في النظُم الشمولية، وهو ما يؤدي في النهاية إلى تدني المنتج الأدبي، وقد ازدهر الأدب في المجتمعات الحرة في العالم الغربي بسبب مجال الحرية المتاح له، وبالتالي وجود أكثر من ترجمة لعملٍ ما هو ميزة، وبإمكان القارئ النبيه التعرّف على مبتغاه في أغلب الأحيان من خلال دار النشر أو الكاتب أو المترجم، في أواخر التسعينيات وقعت في يدي نسخة من رواية “مائة عام من العزلة” ولم أر ترجمة أو ركاكة لغة أسوأ منها، وهو ما رأيتُه آنذاك جريمة مكتملة الأركان في حق ماركيز وفي حق مترجمها الأول القدير صالح علماني، فكان أن حفّزني ذلك إلى دخول عالم الترجمة.

– تشهد منطقتنا متغيرات سياسية واجتماعية واقتصادية.. هل يؤثر ذلك على اختياراتك للترجمة؟

منذ ترجمتي لكتاب “الحرب في زمن السلم” لديفيد هالبرستام الذي يبحث في التاريخ السياسي الحديث للولايات المتحدة، أستمتعُ، إذا ما أتيحت لي الفرصة، بترجمة كتبٍ غير أدبية تبحث في السياسة أو الاجتماع أو الاقتصاد وما إلى ذلك، لكن تظل مشكلة النشر هي الأساس، فلديّ ترجمتين مكتملتين لكتابين اعتبرتهما حينذاك مهمّين هما “حروب الموارد” و “الموت الأسود” ويتحدث عن الإيدز في أفريقيا الذي شاركت ترجمته مع الكاتب محمد المفتي؛ لكن تظلّ المعاناة قائمة لصعوبة الحصول على ناشر.

– لماذا تهتم بترجمة الروايات؟

الترجمة ليست فعلاً لغويًا فحسب؛ بل هي عملية ثقافية اجتماعية إبداعية، وليس أجمل من الغوص في ثقافة وإبداعات شعوب أخرى من خلال الرواية، وهي العمل الإبداعي الأكثر بروزًا وروعة، ومحاولة نقلها إلى العربية، والترجمة في نهاية المطاف هي إعادة خلق للنصوص بروح جديدة ولغة جديدة، حيث يضيف المترجم رؤيته للنص ويفصح عن قدراته في التواصل مع المتلقي.

وقد عشت أوقاتًا رائعة ومثيرة أثناء ترجمتي لرواية “فتاة الوشاح الأحمر” للروائية جي لي يانج، ورواية “لعبة الحياة والموت” للروائي مو يان، من خلال مقاربة الثقافة الصينية، وإن كانت الترجمة قد تمّت عبر لغة بديلة وهي الإنجليزية.

كما أرى أن اللغة العربية مرنة ومطيعة تماًما شرط امتلاك ناصيتها. وهو الأساس في عملية الترجمة برمّتها، فلا مجال مطلقا لخوض فعل الترجمة ما لم يتحقق هذا الشرط.. وأحاول دائمًا في اختيار المفردات والجمل والصياغات ألاّ تكون معقدة ومربكة لعموم القراء، بل أنْ تغلب عليها سهولة الفهم والاستيعاب، والأهم من ذلك كله ما يُسمى بالسبك حتى تخرج الفكرة متوازنة في ثوب قشيب، لا يجده القارئ غريبًا أو منفّرًا. وهنا يأتي دور ما يُعرف بالكتابة الإبداعية التي يُفترض أن تكون مادة أساسية في المراحل التعليمية المختلفة، وأن تكون رديفًا لمادة “الإنشاء” التي اقترنت لدى الكثيرين منّا بالتفخيم والمبالغة في انتقاء العبارة المربكة.

لكن أكثر ما يضنيني في عملية الترجمة هو غياب وظيفة “المحرر” في أغلب دور النشر العربية، ووظيفته العمل مع كاتب النص “سواءً الروائي أو المترجم” ليس فقط من حيث التدقيق اللغوي، وهو جانبٌ أساس، ولكن أيضا في تتبع فكرة العمل وتدقيقها للخروج بنصّ متقن خالٍ من التناقضات والعيوب. وهذا الأمر يجبرني على قضاء وقت أطول مع النص المُنجز في محاولة القيام بوظيفة المحرر. ومع ذلك كثيرا ما أكتشف العيوب في نصوصي، بعد طبعها ونشرها.

– هل المترجم مظلوم؟ مرة خائن ومرة أخرى منافس للكاتب.. هل تشعر بهذا الظلم؟

في بداية خوضي لعالم الترجمة؛ واجهت مشكلة بسبب ظروف المجتمعات التي نتوجه إليها بالعمل الإبداعي، وبسبب إحجام أغلب الناشرين على قبول نصوص يرونها شاذة ومنفتحة لا يقبلها القارئ العربي بسهولة، فلابد من أجل إجازة النص المترجم أن تجري عليه بعض التعديلات الطفيفة في مسألة تابوهات الجنس والدين، وهنا بالطبع قد ينطبق تماما مفهوم خيانة النصّ، لكنني اعتبرتُ أن تعديل بعض النصوص المغرقة في فجاجتها “ونعرف أن أغلب الأعمال التي نترجم عنها لا تخلوا من نصوص مغرقة في الحسّية” وفقًا لرؤية هذه المنطقة من العالم هي قضيةٌ تخصّ دار النشر لوحدها التي تريد للعمل الأدبي أن ينتشر لا أن يُواجه بتعنت الرقيب “ظلت ترجمتي لرواية “موت فيشنو” على الرف عند دار النشر المرموقة حتى تم تلطيف فجاجة بعض النصوص، وكذلك الحال مع أولى رواياتي المترجمة “كثبان النمل في السافانا” ونشرتها سلسلة إبداعات عالمية” طبعًا لا أتفق على التعامل مع النصوص الأدبية بمعايير أخلاقية ودينية خاصة، وما يستتبعُ ذلك من محاولات لي عنق النص الأصلي ليتناسب مع رؤية وفكر أيّ كان. ودون تنصّل من المسؤولية الأخلاقية، أرى أن تلك قضيةٌ تخص الناشر بالدرجة الأولى.

فمهمتي،كمترجم، هي نقل فكرة صاحب العمل بالأسلوب المُعبّر عنها كما هي، ولا أعتبر نفسي وصيّا على فكر وأخلاق المتلقّي. مع ذلك هناك دورٌ جريئة تقبل نشر نصوصٍ مثيرةٍ للجدل، ولكن بالنسبة لمترجمين مغمورين من أمثالي وبعلاقاتٍ محدودة في الوسط الأدبي؛ فإن التعامل مع دور النشر هذه ليس بالأمر المتاح.

– ما هو العمل الذي ندمت على ترجمته؟

لم أندم على عمل ترجمته، لكنني كثيرًا ما شعرت بالإحباط لقضائي أوقات طويلة وبذلي جهدًا عظيمًا في ترجمة أعمال عديدة لم تر النور بسبب صعوبات النشر.

– ترجمت عدة روايات تاريخية مثل “فتاة الوشاح الأحمر” للروائية جي لي يانج، و”لعبة الحياة والموت” للروائي مو يان، و “أعمدة الملح” للروائية فاديا فقير. لماذا هذا الاهتمام بترجمة الأعمال التاريخية؟

لقد استمتعت كثيرًا بترجمة رواية “أعمدة الملح” لفاديا فقير التي تتعلق بالحقبة الكولونيالية في منطقة شرق الأردن، وهي رواية ممتعة بحق، واشتملت الرواية على نصوص ومصطلحات عديدة باللغة المحكية في المنطقة، حيث نلت عونًا كبيرًا في هذا المجال الجديد من أصدقاء كثر، كما قدمت الكاتبة مساعدات قيمة لخروج الرواية بشكلها الحالي.

– لماذا لا نقرأ لك ترجمات شعرية؟

أستمتع كغيري بالنصوص الشعرية الرائعة ولكن ترجمة الشعر من لغة إلى أخرى هي عملية عبور محفوفة بالمخاطر لمعاني النص الشعري وبنيته؛ ففي القصيدة هناك أصوات وإيقاعات وأناشيد وبوح تتعايش في تناغم خلاق يصل إلى المتلقي بشكلٍ مرهف، ويكاد يتفق كثيرون على استحالة توليد نص شعري مطابق في لغة مغايرة. ملعبُ الشعر إذنْ محفوفٌ بالمخاطر وتنطبق عليه استحالة إنجاز الترجمة الأمينة للنص الشعري وحتمية اقتراف “الخيانة” في حق الإبداع الأصلي المشتمل على ذلك السحر المرتبط بموسيقى الكلمات، والذي يعود في جزء كبير منه إلى تأثيرات الوزن والإيقاع والقوافي.

ويحضرني قول للشاعر الإنجليزي بيرسي شيلي أن “ترجمة الشعر محاولة عقيمة تماما، مثل نقل زهرة بنفسج من تربة أنبتتها إلى زهرية”، ولهذا أتهيّبُ ترجمة الشعر، وإن كنت لا أنكرها على مترجمٍ شاعر أو يمتلك ذائقة شعرية. وفي الأعمال التي ترجمتها تصادفني أحيانًا بعض الأبيات الشعرية، فأحاول ما استطعت الاستعانة بأصدقاء يملكون ناصية اللغة إلى جانب الذائقة الشعرية.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى