اهم الاخباركتَـــــاب الموقع

الانتحار والناي السحري

218TV.net خاص
سالم العوكلي

في الثمانينيات من القرن الماضي انتشرت ظاهرة انتحار الفتيات في مدينة البيضاء وبعض القرى القريبة منها، وكانت وسيلة الانتحار عن طريق إشعال النار في الجسد ، وراجت في تلك الفترة الخرافات العديدة التي تربط هذه الظاهرة بأسباب غامضة وغيبية.
في التسعينيات انتشرت ظاهرة انتحار الشباب في مدينة درنة عن طريق الشنق، وأذكر وقتها أن تحرينا عنها وكتبنا حولها عندما كنا بعض الأصدقاء نصدر صحيفة الأفريقي، وأيضا راجت التفسيرات التي تربط هذه الظاهرة بالسحر والجن وغيرها من الاجتهادات الشعبية التي تجد أرضها الخصبة في غياب الوعي والثقافة النفسية ومؤسسات العلاج النفسي، كما تم وقتها تكليف لجنة من الاختصاصيين الاجتماعيين من قبل أمانة اللجنة الشعبية للضمان الاجتماعي بدرنة، وأفاد التقرير النهائي بمعاناة الشباب الضحايا من الاكتئاب الناتج عن التهميش والبطالة والأزمة الاقتصادية الحادة آنذاك، حيث كانت المرتبات في تلك الفترة تتأخر لشهور عدة، إضافة إلى ضيق المعيشة الناتج عن ارتفاع سعر الدولار من 30 قرشا إلى 3 دنانير ونصف، وبرعاية الدولة نفسها التي كانت تبيع الدولار في السوق الموازية نتيجة العجز في الميزانية بعد الانخفاض الكبير في أسعار النفط، وعادة ما تكثف مثل هذه الأزمات حالات الاكتئاب عند الشباب اليائس والمحبط.
يشكل الانتحار ظاهرة عالمية مقلقة، وتختلف نسَبُه باختلاف الدول والمجتمعات، لكن تقارير منظمة الصحة العالمية تشير إلى أن نسب الانتحار تزداد عالمياً، وتبين المنظمة أن أسباب الانتحار الشائعة تختلف من مجتمع إلى آخر وإن كان ثمة مشترك بينها، وتختصرها في : مرض الاكتئاب النفسي، الألم الجسدي، العزلة النفسية، خسارة المرتب، وفاة شخص مقرب ، الإدمان على الكحول والمخدرات، أسباب وراثية، وإصابات الدماغ الرضية .
وتشمل الوسائل الشائعة الانتحار بالشنق، والتسمم بواسطة المبيدات الحشرية، واستعمال الأسلحة النارية، ووفق أرقام منظمة الصحة العالمية التابعة لهيئة الأمم المتحدّة، يموت في العالم نحو 800 ألف شخص منتحراً كلّ عام، أي بمعدّل شخص كل 40 ثانية، ما يجعله عاشر أسباب الوفيات في العالم. وتعتبر المنظمة الانتحار أحد أهم الأسباب المؤدية إلى الوفاة في فئة الشباب بين 15 و29 سنة. إضافة إلى تسجيل مابين 10 إلى 20 مليون محاولة انتحار فاشلة سنوياً، ويشكل الرجال من ثلاث إلى أربع أضعاف حالات الانتحار بالنسبة للنساء.
ورغم أن معدلات الانتحار بشكل عام منخفضة عربياً، تأتي بعض الدول العربية في مراكز متقدّمة من الدول المسجلة لأعلى حالات الانتحار في العالم، كالسودان التي تقارب نسبة الانتحار فيها نسبة قارّة آسيا كاملةً.
ويفسّر تقرير لمنظمة الصحة العالمية تحت عنوان “الوقاية من الانتحار ضرورة عالمية” ارتفاع نسبة الانتحار في السودان بعدم الاستقرار، والحرب، والفقر، والتشريد، إذ يعاني الكثير من الشباب السوداني من شعور “عدم الجدوى”، ويقرر وضع حداً لحياته بنفسه.
ويشار إلى أن أرقام حالات الانتحار في العالم العربي عموما غير دقيقة بسبب عدم التبليغ أو التغطية الاجتماعية على الكثير من الحالات نتيجة ضغوط دينية واجتماعية تعتبر الانتحار محرما دينياً أو فضيحة اجتماعية، وربما هذه الثقافة هي التي تدفع هذه المجتمعات إلى ربط حالة الانتحار المزدراة اجتماعيا بمصادر غامضة تجعل من المنتحر ضحية مقودة بقدر لا سيطرة عليه إلى هذه النهاية، ما يمنح المجتمع نوعا من التنصل من مسؤوليته تجاه هؤلاء الشباب وتركهم لمصائرهم . كما أسهمت النظم السياسية الفاشلة في الترويج للخرافة كسبب من أسباب الانتحار رفعا لمسؤوليتها عن هذا المصير الذي يعود في غالبه إلى ظروف اقتصادية محبطة وإلى أمراض نفسية مهملة من قبل الدولة والمؤسسات ذات الشأن.
يقول أستاذ الطب النفسي الدكتور محمد عادل الحديدي: ” تلعب الأمراض النفسية دوراً كبيراً في الإقدام على الانتحار، ومن أكثر هذه الأمراض التي تجعل الإنسان عرضة للانتحار، الإصابة بمرض الاكتئاب، لأن الذين يحاولون الانتحار تكون نسبتهم 50 % من إجمالي مرضى الاكتئاب على مستوى العالم، وينجح 15 % منهم في الانتحار.
ويضيف الطبيب النفسي، أن من الأمراض التي تؤدي إلى الانتحار الإصابة بمرض الفصام، وهو من أهم وأشهر الأمراض النفسية، وأعراضه عبارة عن هلاوس وضلالات، ويسمع الشخص أصواتا عديمة المصدر والصوت يأمره أن يؤذي نفسه، أما الضلالات فالشخص يشعر أن المحيطين به يضطهدونه أو يراقبونه ويتآمرون عليه، فيشعر الشخص بضغط عصبي شديد لا يستطيع تحمله فينتحر.
أما ظاهرة حدوث الانتحار في مكان وزمان محددين وباستخدام الوسيلة نفسها والتي يتخذها البعض كدليل على ترويج الخرافة بشأن الانتحار، فهي تعود كظاهرة إلى مفهوم الحافز، بمعنى ثمة العديد من الأشخاص الذين لديهم استعداد للانتحار للأسباب السابق ذكرها، وبمجرد أن تقع حادثة واحدة تنتقل العدوى بسرعة، مثل الذين يقفون على جرف عال وينتظرون من يقفز أولاً ليقفزوا وراءه.
وكما يرد في (ويكيبيديا الموسوعة الحرة): “يُعرف هذا الدافع لعدوى الانتحار أو الانتحار بالتقليد باسم “تأثير فيرتر”، والذي سُمي على اسم بطل رواية غوته التي تحمل اسم “أحزان الشاب فيرتر” الذي انتحر في أحداث القصة. وتكون هذا الخطورة أكبر لدى المراهقين الذين قد يضفون طابعًا عاطفيًا على الموت. ويبدو أنه بينما تتميز وسائل الإعلام الإخبارية بتأثير كبير، فإن تأثير وسائل الإعلام الترفيهية غير واضح بالتحديد. وعلى العكس من تأثير فيرتر، هناك تأثير بابا جينو المقترح، وفيه فإن تغطية آليات التكيف الفعالة قد يكون لها تأثير وقائي. ويستند هذا المصطلح إلى شخصية في أوبرا موتسارت التي تحمل اسم ا(لناي السحري) حيث أقدمت هذه الشخصية على محاولة الانتحار خوفًا من فقدان أحد الأحباء حتى قام الأصدقاء بمساعدتها على الخروج من هذه المحنة”.
وحالة الناي السحري هي التي ألهمت الكثير من الدول المتقدمة فكرة استحداث مؤسسات خاصة بمتابعة الأمراض الاجتماعية والنفسية والحيلولة دون استفحالها وتقديم المساعدة مبكرا لمن تراوده فكرة الانتحار . للأسف مثل هذه المؤسسات تحتاج إلى الشفافية والعقل العلمي الذي يؤمن أن كل شخص فينا يحتاج إلى استشارة نفسية دورية مثلما يحتاج إلى فحص دوري لحالته الصحية الجسمية . لكن الدارج لدينا أن المتردد على طبيب نفساني يعتبر مجنونا أو (مكلوبا) باللهجة الليبية، وغالبا ما يكبت المريض معاناته حتى تخرج أعراضه بقوة ويصبح خطرا على نفسه ومحيطه، وحينها ينقلونه إلى دولة أخرى للعلاج النفسي الذي يتطلب وقتا طويلا وليس نزهة أسبوع في دولة مجاورة، أو يتم إيواؤه في مستشفى الأمراض العقلية.
بل أن الأمر يتعدى كل ذلك إلى كون البعض يعتبر بوادر المرض النفسي نوعا من القيم الاجتماعية والأخلاقية. أخبرني أحد الآباء الذي انتحر ابنه وهو يعدد ميزات هذا الابن: كان في حاله، لا شُلل ولا سهرات ، وديما قاعد في الحوش وأدويرته وامريحنا من المشاكل، مانيش عارف شنو اللي صارله ” وكان في الواقع وهو يحكي عن فضائل ابنه يتحدث عن أعراض مرض الاكتئاب الذي أوصله إلى الانتحار، بعد أن أحضر له المشعوذون الذي زادوا بطرقهم العنيفة اكتئابه وعجلوا بانتحاره.
أخيراً، لعل أسباب الانتحار التي وصلت إليها الدراسات في السودان تنطبق على وضعنا الحالي في ليبيا حيث أهملت كل المطالب بإجراء مسح شامل لإعادة التأهيل النفسي بسبب ما تمر به ليبيا من ظروف استثنائية، دون جدوى أو إعطاء هذا الأمر أقل اهتمام . ومبدئيا لابد أن تكون مادة علم النفس ضمن المنهج في مراحل التعليم المختلفة ، لكي يعرف الشباب أن هذا العلم مهم ويجيب عن أسئلة كثيرة، وأن استشارة طبيب نفساني لا تختلف عن استشارة أي طبيب آخر، خصوصا وأن الكثير من الأمراض النفسية اكتشف العلم أن أسبابها عضوية.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى