مقالات مختارة

الإنقاذ الحقيقي بعد جريمة بيروت!

حنا صالح

بعد مرور 23 يوماً على الجريمة ضد الإنسانية التي استهدفت بيروت وناسها، ما زالت العاصمة اللبنانية تعيش توتراً شديداً وقلقاً لم تعرفه طيلة الحروب التي عاشها لبنان. حبس الأنفاس امتد إلى جهات البلد الأربع، لأن كل الناس تطرح السؤال نفسه ماذا جرى؟ وكيف حدث هذا الانفجار المرعب على مرحلتين، وألم يكن ممكناً ولو نسبياً تدارك الجريمة للحد من حجم الضحايا؟ وهل صحيح وجود مستودعات متفجرات تحت وسادة اللبنانيين؟ وبالتالي إلى أين يتم أخذ لبنان؟ وبعد كل هذه المدة لا يلمس المواطن إلا الغياب المريب للسلطة، والإصرار بضغطٍ من «حزب الله» على تركيبة حكومية من الطينة نفسها التي تسببت في الانهيار والغرق!

عندما تحدث البطريرك الراعي عن تنامي القلق الشعبي الناجم عن تحول العاصمة خلال دقائق إلى مدينة منكوبة، مبدياً الخوف من أن تكون مناطق لبنانية أخرى باتت حقول متفجرات، «لا نعلم متى تنفجر ومن سيفجرها»، وضع الرئيس ميشال عون أمام المسؤولية، لأنه بحكم موقعه أقسم على الدستور، أي على حماية الأرض وحياة المواطنين! لكن المشهد السلطوي كان مغايراً، أولويته الحفاظ على مكاسب واهية وتحقيق أحلام مفترضة للصهر جبران، وكأن لا انهيار ولا مجاعة ولا جائحة، ولم تقع أخطر جريمة إبادة جماعية رمّدت نصف العاصمة وأغرقتها في الدماء والخراب والاقتلاع، وبات نحو 300 ألف إنسان بدون سقف.

كان الأسبوع الثالث على جريمة الحرب الإرهابية يشارف على الانتهاء، وما زال أكثر من 50 شخصاً تحت أنقاض المرفأ والأحياء المجاورة، وما من مسؤول صارح اللبنانيين بما جرى أو أعرب أقله عن الاعتذار. واقعياً تعاطت الطبقة السياسية مع الجريمة بوصفها «حادثة» و«فرصة»، واندلع الجدل بين أطراف منظومة الفساد حول أضمن المخارج التي تحمي مصالح من استباح البلد وتسبب في الكوارث المخيفة. فمن طرح حسن نصر الله حكومة «وحدة وطنية» أو حكومة لها حيثية، إلى طرح ميشال عون «حكومة أقطاب»، يُستشف مسألة واحدة وهي أن من أوجد حكومة اللاشيء، يبحث عن حسان دياب رقم 2 وحكومة تغطي نهج «حزب الله» وترفض تحميله مسؤولية الانفجار ورفض أي تحقيق دولي رغم الأدلة التي تدين ثنائي «الضاحية الجنوبية» و«بعبدا»! ويتأكد هذا المنحى بالإصرار على بدعة «التأليف قبل التكليف» وتقويض الدستور، وليستمر البلد في الهاوية! هذا الأمر تصدى له البطريرك الراعي الذي رفض التلطي خلف الدويلة لتعطّيل الدولة، وأدان الإصرار على النظر لمسألة الحكومة من «زاوية انتخابية مصلحية وليس الذهاب إلى حكومة إنقاذ وطني»، وللمرة الأولى يعلن رفضه «حصر السلطة في منظومة فساد أثبتت فشلها»!

بعد 17 تشرين وخصوصاً بعد جريمة الرابع من أغسطس (آب)، هناك معبر إلزامي للإنقاذ يفترض قيام حكومة من خارج المنظومة، أي حكومة استقلاليين مستقلة، يستطيع رئيسها والأعضاء التجول في بيروت بين الناس ومحاورتهم والاستماع إلى مخاوفهم وأولوياتهم. وحدها حكومة من هذا النوع تكون قادرة على استعادة ثقة الشارع الرافض مشاريع استنساخ الحكومات السابقة وكل تركيبات نظام المحاصصة الطائفي. لكن لو أُمعِنَ النظر جيداً في هذا الأمر لتبين أن الكتل النيابية بالإجمال سترفض بشدة هذا الاختيار. طبعاً الرفض مبني على واقع مفاده أن هذا النوع من الحكومات سيهدد الوجود السياسي لأكثر التركيبة النيابية التي أوجدها قانون انتخابات متصادم مع الدستور، لم يأخذ بالحد الأدنى من الإصلاحات التي تضمن عدالة التمثيل!

بالتأكيد ستدير الكتل النيابية الظهر للمطالبة الشعبية بحكومة مستقلة، ولا شك أنها تنطلق من أن مثل هذه المطالبات التي رفعتها «17 تشرين» بقيت محلية لم تستند إلى ميزان قوى راجح، وبقيت معزولة عن أي دعم خارجي فعلي، رغم كل التصريحات والمواقف الدولية التي طالبت بالاستماع إلى صوت الناس. ما يهم الخارج بشكل رئيسي هو الاستقرار السياسي وعدم حدوث الاضطرابات، وبالتالي تسونامي هجرة. وهذا يسري على كل الطروحات الخارجية ولو بنسبٍ متفاوتة، لذا من المبكر توقع متغيرات في تعاطي الخارج مع طروحات الثورة، ومن غير المتوقع ألا تستفيد قوى المنظومة الفاسدة من ضخ الأوكسجين الذي يدخل البلد تحت عناوين الإغاثة والطبابة والتأمين الجزئي للحاجات الأولية للناس!
إن حاجة لبنان ماسة إلى وجود حكومة مستقلة مع صلاحيات تشريعية، في مجالات المال والنقد والضرائب والشأن الاجتماعي والتنموي وكل ما له علاقة بعملية النهب وحتمية التدقيق الجنائي، ما من شأنه فتح مسار الإصلاحات الضرورية لبدء التعافي واستعادة الثقة، لأنه إذا ما كانت السلطة التنفيذية موثوقة فإن بعض الإجراءات القاسية ستكون ممكنة رغم أنها مؤلمة للغاية! لكن هذه الحكومة ممنوعة، من جهة لأن «ثورة تشرين» تواجه تحدي عدم القدرة على التغيير، ومن الجهة الثانية لأن وجودها سيرسل الكثير من أركان الطبقة السياسية إلى القضاء!

الملاحظ أنه في بيروت وفي سياق نشاط «المجموعات»، التي ولد الكثير منها من رحم «ثورة تشرين»، أو نبتت كالفطر في مرحلة لاحقة، تجري نقاشات حول الحكومة المستقلة المطلوبة وصلاحياتها. بعضها، وهو القليل، تطرق إلى السؤال عن كيفية فرضها، وكيف يمكن إن وجدت أن تعمل مع برلمان معادٍ وهي متصادمة مع المصالح الفئوية للأحزاب الطائفية المتسلطة، وأساساً كيف يمكن أن نتوقع تنازلاً سياسياً خصوصاً من جانب «حزب الله» الذي فرض تسوية 2016 التي مكنته من مفاصل القرار. لكن الطروحات عموماً لم تتطرق إلى مسألة البحث عن أوراق القوة في المجتمع اللبناني التي من شأنها تعزيز إمكانية تحويل حلم ليلة الصيف هذا إلى واقع! فبدا الجامع بين هذه النقاشات التسابق إلى إعلان تركيبة: حكومة الثورة، ولسان حال كثر: «قوم ت اقعد مطرحك»! وكأن نظام المحاصصة الطائفي أوجد ثوار المحاصصة!

لقد استطاعت منظومة الحكم، وهي العصارة الصافية لتحالف شرير نشأ بين ميليشيات الحرب والمال، أن تدمر مصالح أكثرية اللبنانيين الساحقة، وجريمة 4 أغسطس لن تبدل في نهجهم، وسيحرمون الضحايا من حقهم بالعدالة. ولأن تاريخهم معروف باشروا محاولات استحضار «داعش» لطمس معالم جريمة الحرب المسؤولين هم عنها. التحدي اليوم كيف يتم التعبير عن مصالح الأكثرية الشعبية في إطلاق شبكة أمان وطنية تجمع أوسع القوى وتعبر عن المتضررين، فتردّ هجمة الضباع وتفرج عن مسار التغيير، بعدما أنجزت الثورة مصالحة حقيقية وطوت صفحة الحرب الأهلية… شبكة أمان رادعة بوجه محاولات الفتنة المتنقلة، والاستهداف المتواصل للحريات، لتبلور ميزان القوى الحقيقي في البلد، مستفيدة من جهود متعددة لبناء حالات تنظيمية أفقية قادرة على محاكاة التحرك الكامن واستعادته إلى الفعل، ليكون بالإمكان استنباط الأساليب التي تقرب لبنان من المرحلة الانتقالية للتغيير!

المصدر
الشرق الأوسط

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى