مقالات مختارة

الأيادي العابثة تهدم بيت المَلِك إدْريْس بمسة !!

شكري السنكي

كان الظن ألا نعود إِلى سابق عهد، واعتقدنا أن عهد الجحود والنكران والتزييف والعبث بالذّاكرة الوطنيّة، قد ولى وفات، فإذ بنبش قبور الأئمة يعود مجدَّداً وينقل الرفات إِلى مكان مجهول!!.. وإذ بالتشكيك فِي تاريخنا يتكرر، وتعبث الأيادي الظالمة بنشيدنا الوطنيّ وتحذف فقرة أساسيّة مِن فقراته، ثمّ يتقدم بعض أعضاء مجلس النّوَّاب بطلب يقضي بتغيير «العلم والنشيد» فيوافق رئيس المجلس على الطلب ومناقشة الاقتراح!.

وبدلاً مِن أن يقوم البرلمان بإرجاع الحق لأصحابه ويرفع الظلم عَن المظلومين ويرد الاعتبار للمَلِك إدْريْس السّنُوسي وعائلته، وذلك بإلغاء الأحكام الصّادرة عَن المحكمة الصوريّة المُسمّاة بـ(محكمة الشّعب)، والّتي تشكلت عقب انقلاب سبتمبر 1969م، نراه يُمعن فِي ظلمه بتجاهل المطالبات بإلغاء الأحكام الظالمة الصّادرة ضدَّ المَلِك وعائلته، ويقبل رئيسه بمناقشة مقترح تغيير «العلم والنشيد»، ثمّ يصمت البرلمان صمت القبور حيال الاعتداء على بيت المَلِك الخاصّ بمنطقة «مسة» فِي شرق ليبَيا على بعد 10 كلم غرب مدينة البيضاء!. ويُذكر أن محكمة الشّعب كانت قد أصدرت فِي نوفمبر 1971م حكماً غيابياً يقضي بإسقاط الجنسية الِلّيبيّة عَن المَلِك إدْريْس وإعدامه رمياً بالرصاص ومصادرة أملاكه، وآخر يقضي بسجن زوجته الملكة فاطمة الشفاء لمدة خمس سنوات ومصادرة أملاكها.

والّذِي حدث أنه تمَّ الاعتداء –ومنذ أيّام قليلة مضت– على بيت المَلِك بـ«مسة»، البيت الّذِي نعتبره صار معلماً تاريخياً، وأن المساس به هُو اعتداء على إرثنا وتاريخنا وهويتنا، وهدمته جهة معلومة بحجة تطويره!. هدمت تلك الجهة بيت المَلِك إدْريْس قائد جيش التَّحرير والأب المؤسس للدولة الِلّيبيّة، أو ألحقت به الضرر وجرى الاعتداء عليه وتشويه معالمه باسم المسنين والعجزة، وبحجة تطويره !. وقد قامت تلك الجهة بفعلتها النكراء متجاوزةً مشاعرنا الوطنيّة وقيمة البيت التاريخيّة، ومستأنفة مسيرة نظام سبتمبر المنهار الّتي قامت على الهدم والتزييف وتشويه التاريخ وطمس حقائقه الناصعة (*). هذا، وقد قام نظام سبتمبر الانقلاّبيّ بهدم العديد مِن المباني ذات الصلة بوجدانيّات النَّاس وذاكرتهم، وذات الارتباط بجهاد أجدادهم وتاريخ نضالهم السّياسي والثقافي، كذلك العبث بالمدن والشوارع القديمة وكل مَا له علاقة بذاكرة النَّاس، بهدف فك الارتباط بين الشّعب الِلّيبي وتاريخه، ولأجل التأثير بالسلب على ذّاكرة النَّاس، بمعنى إفقار الذّاكرة حتَّى تتخلف سلوكيّات النَّاس وتسوء تصرفاتهم، فتسهل عمليّة السيطرة عليهم، لأن فاعلية النَّاس وحسن تصرفهم يرتكزان فِي الأساس على ثراء الذّاكرة.

والشّاهد، أقدمت معاول الهدم والعناصر الموقدة الفتنة والأيدي العابثة بُكلِّ آثار تاريخنا، على هدم بيت المَلِك إدْريْس السّنُوسي – طيّب الله ثراه– دون أي اعتبار لقيمته التاريخيّة، ولا لمشاعرنا الوطنيّة، ولا لحقِ الورثةِ والرجوع إليهم قبل اتخاذ أيَّ خطّوة فِي أيِّ اتجاه. هُدّم البيت أو جرى الاعتداء عليه، تحت مرأى ومسمع الحكومة، ومع سبق الإصرار والترصد، ولذا نحمل الجهات الرَّسميّة مسؤوليّة مَا حدث لهذا المبنى، وندينها بأشد العبارات، كمَا أن التاريـخ سيدينها لا مَحالَة مِن ذلك. وفِي الوقت الّذِي يتورط فيه المسؤولون فِي بلادنا فِي مشاريع التفريط فِي حفظ الذّاكرة وإبقائها حيّة فِي أذهان النَّاس، نجـد حكومات الدول المتقدمة والمخلصة لأوطانها تحرص على حفظ ذاكرة شعوبها من خلال قوانين وتشريعات تمنع منعاً باتاً هدم المباني والشوارع القديمة ذات العلاقة بذّاكرة النَّاس وتاريخهم.. وتدعم جهود الحفاظ عليها باعتبارها إرثاً قوميّاً يستوجب صونه وصيانته وتقديمه فِي أحسن صورة.

ولا شكّ أن حادثة هدم بيت المَلِك إدْريْس بمنطقة «مسة» تعيد إِلى الأذهان هدم سلطات نظام سبتمبر الانقلاّبيّ ضريح شيخ الشهداء عُمر المختار فِي بّنْغازي.. وهدم مبنى القلعة الكبير الّذِي بناه الأتراك فِي مدينة (بني وليد) إبّان عهد حكمهم لليبَيا.. وهدم المبنى الإيطالي الجميل الّذِي كان مقراً لوزارة الخارِجِيّة فِي العهد الملكي، والكائن بين شارعي البلدية والقاهرة بمدينة طرابلس.. وهدم ضريح الإمام محَمّد بِن علي السُّنُوسي جد المَلِك إدْريْس، المدفون بضريح في زاوية واحة الجغبوب فِي العام 1276 هجري الموافق 1859م.. وغير ذلك كثير.

هدمت الأيادي العابثة بيت المَلِك إدْريْس بمنطقة «مسة»، أو اعتدت عليه وشوهته تشويهاً تاماً، البيت الّذِي اشترى المَلِك أرضه وبناه مِن حر ماله، وملكيته ثابتة له بالورق وسند الملكيّة العقاريّة. وقد أرفق الباحث الأستاذ يُوسف عبدالهادي سند ملكيّة المَلِك الرَّاحل للبيت وللأرض المحيطة به والّتي تبلغ هكتارين ونصف تقريباً فِي منشور له يوم 23 يناير 2019م عبر صفحته الشخصيّة فِي الفيسبوك. هذا، وكان البيت مستغلاً قبل هدمه أو الاعتداء عليه، كدار للعجزة ورعايّة المسنين، وتم الإقدام على فعلةِ الهدم النكراءِ بحجة تطويره، والتطوير عند هؤلاء يبدأ بالهدم وينتهي به، لأنهم لا يعرفون سواه، فهم مخلفات عهد قام على فكرة الهدم ولم يعرف يوماً التعمير والبناء.

أخيراً ندين بشدة عمليّة هدم بيت المَلِك بـ«مسة»، ونحمّل الجهات الرَّسميّة المسؤوليّة كاملة، ونؤكد أن الخير والفلاح يبدآن بحفظ الذّاكرة والتمسك بميراث الجدود ورفض النكران والجحود، ويكمن فِي اختيار مَا يحقق مصلحة الوطن ويحافظ على وحدته واستقراره وأمنه، وما يستعيد مجد ليبَيا وتاريخها العظيم بين الأمم.

وهذا مَا لزم قوله، ولله الأمر من قبل ومن بعد.

زر الذهاب إلى الأعلى