مقالات مختارة

الأزمة الليبية بين مصر وفرنسا: اتفاقات محفوفة بالاستثناءات

فرنسا أعلنت تأييدها لتحركات مصر من أجل توحيد المؤسسة العسكرية تحت قيادة حفتر لكنها لم ترتح لخطوة حفتر نقل تبعية المؤسسة النفطية إلى حكومة الثني.

محمد أبوالفضل

لم تستطع الكثير من القوى الخارجية الفاعلة في الأزمة الليبية أن تتبنى موقفا واحدا على طول الخط، مع أو ضد هذا الطرف أو ذاك، وبدا أن تأييدها لطرف لا يعني خصومة مع الطرف الآخر، وهي لعبة نجمت عن تعقد الأزمة وتعدد المؤثرين فيها، فضلا عن انفتاحها على احتمالات متباينة.

في هذا الإطار يمكن التعامل مع موقفي القاهرة وباريس وفهم الدلالات السياسية التي تنطوي عليها زيارة جان إيف لودريان وزير خارجية فرنسا لمصر، الخميس، والتقى خلالها الرئيس عبدالفتاح السيسي، واحتلت الأزمة الليبية جانبا رئيسيا من المحادثات المشتركة بينهما.

تدعم مصر وفرنسا المشير خليفة حفتر، قائد الجيش الليبي. وقد قامتا بتأييده في العمليات العسكرية الأخيرة في درنة. وساهم الدعم الفرنسي في تحقيق نقلة نوعية، تمثلت في سرعة تحرير درنة من قبضة الإرهابيين، وقبلها بأيام قليلة استعاد حفتر سيطرته على منطقة الهلال النفطي التي حاولت ميليشيات إبراهيم الجضران إحكام سيطرتها عليه، بدعم من جماعات إسلامية وحلفاء دوليين.

اتفقت القاهرة وباريس على دعم الجيش الليبي. وأعلنت فرنسا تأييدها لتحركات مصر من أجل توحيد المؤسسة العسكرية تحت قيادة حفتر. لكن باريس لم ترتح لخطوة حفتر بشأن نقل تبعية المؤسسة النفطية إلى حكومة عبدالله الثني في شرق ليبيا، وإبعادها عن سيطرة حكومة فايز السراج في طرابلس والتي تحظى بشرعية دولية.

جاء قلق باريس من تقدير يشي بأن قرار نقل تبعية الهلال النفطي إلى حكومة الثني من الصعب أن يتخذه حفتر ويوافق عليه البرلمان، الذي يرأسه عقيلة صالح المدعوم من القاهرة أيضا، دون الحصول على ضوء أخضر من مصر.

وجاءت زيارة لودريان للقاهرة في هذا التوقيت، لأن خطوة تأميم الهلال النفطي يمكن أن تمثل استفزازا لقوى عدة، قد تضطرها للتحرك بما يؤدي إلى تدويل هذه المنطقة التي تحوي احتياطيات نفطية كبيرة، وتصدر نحو نصف مليون برميل يوميا، وبالتالي إرباك حسابات باريس فتفشل مبادرتها للتسوية السياسية في ليبيا.

لدى مصر اعتقاد أن تعقيدات الأزمة تستلزم امتلاك حفتر جملة من الأوراق للضغط بها، بعد أن تأكدت من وجود جهات كثيرة تريد التخلص منه ووضع مصدات أمام صعوده سياسيا، الأمر الذي تكشفت معالمه أثناء فترة تلقيه العلاج في فرنسا منذ نحو شهرين.كما أنه من الضروري إحداث تغيير في مواقف القوى الغربية المرتبكة، والتي لا يزال بعضها يتعامل مع الأزمة دون إلمام كامل بجوانبها. وترى القاهرة أن استحواذ حفتر على ورقة الهلال النفطي ليس المقصود منه استفزاز أحد، لكن المراد تصويب مسار بعض التطورات والضغط على قوى تتبنى مواقف متناقضة، أي تعلن دعم الجيش الوطني وتأتي بتصرفات تسير عكس هذا الاتجاه.

يمكن فهم دواعي القلق الفرنسي وزيارة لودريان للقاهرة، من منطلق أن باريس لا تريد أن تجد نفسها في مواجهة مباشرة مع قوى دولية عديدة تدعم السراج

كما ترمي القاهرة أيضا إلى تثبيت عنوان أن حفتر هو الرجل القوي فعلا في ليبيا، ومن الضروري عدم التردد في دعمه إذا أرادت القوى الفاعلة في الأزمة الوصول إلى قدر وافر من الأمن والاستقرار وفتح الطريق أمام إجراء انتخابات برلمانية ورئاسية، مثلما أوصت به المبادرة الفرنسية التي أطلقت في مايو الماضي، بعد أن جمعت باريس أهم أربع قيادات على الساحة الليبية، وهم حفتر والسراج وعقيلة، فضلا عن الإخواني خالد المشري رئيس مجلس الدولة.

يمكن فهم دواعي القلق الفرنسي وزيارة لودريان للقاهرة، من منطلق أن باريس لا تريد أن تجد نفسها في مواجهة مباشرة مع قوى دولية عديدة تدعم السراج، وفي مقدمتها إيطاليا، التي قدمت دعما لميليشيا الجضران، لتشتيت جهود حفتر بين درنة والهلال النفطي وإعادة ترتيب الأوراق بما يخدم مصالحها الاستراتيجية. وكان الدعم السخي الذي وجده المشير من باريس قد مكنه من هزيمة الجضران، وإعلان تحرير درنة كاملة.

تخشى باريس الدخول في مواجهة مع روما، ولكل منهما طموحات متعارضة في ليبيا، فكلتاهما تريد السيطرة على مناطق نفوذ تمكنها من الاستحواذ على جزء معتبر من كعكة النفط والغاز الليبيين، فضلا عن رغبة فرنسا في وضع يدها على مناطق نفوذ تقليدية في الجنوب الليبي تساعدها على تكريس حضورها في بعض دول الجوار مثل مالي وأفريقيا الوسطى وتشاد.

هنا تأتي نقطة خلاف رئيسية بين مصر وفرنسا، فالأولى تريد الحفاظ على وحدة الدولة الليبية، والثانية لن تمانع، عند مستوى معين، من دعم خيار التقسيم إذا وجدت أن الوحدة تؤثر على مصالحها الحيوية ولن تلبي تطلعاتها المستقبلية.

تحاول القاهرة تجاوز هذه النقطة وتعتبرها سابقة لأوانها وثمة فرصة للمزيد من التقارب مع باريس في ظل تقاطعات حيوية تتعلق بتعاون عسكري وصفقات أسلحة مهمة بين البلدين، لذلك تسعى مصر للبناء على هذه الجوانب الإيجابية وفي مقدمتها التوافق حول دعم حفتر وكسر شوكة الميليشيات الإسلامية التي يرى فيها البلدان خطرا مشتركا، ويبدو حفتر هو القيادة الوحيدة المؤهلة للحد من تداعياتها.

بدأت فرنسا تضع جزءا من ثقلها المادي والمعنوي في الأزمة الليبية مؤخرا وتستغل غموض الموقف الأميركي وعدم توافق القوى الأخرى على رؤية محددة لحل الأزمة الليبية. وتحاول تمهيد الطريق أمام تنفيذ مبادرتها، وأهم بنودها المتعلقة بإجراء الانتخابات في 10 ديسمبر المقبل.

عندما وجدت باريس أن البيئة تسير في اتجاه آخر لن يساعد على إجراء الانتخابات، حسب تصورات سابقة، ضاعفت من وتيرة حواراتها ومناقشاتها مع القاهرة بحكم مقاربات الأخيرة المتعددة مع ليبيا ورغبتها في تصويب بعض الأخطاء التي شابت العلاقة بين القاهرة وباريس، وظهرت تجلياتها في الموقف المصري المحايد من مبادرة فرنسا الأخيرة وعدم تجاوب القاهرة معها.

تعتقد القاهرة أن باريس تريد قطف ثمار جهودها في ليبيا خلال السنوات الماضية. ولم ترسل مصر وزير خارجيتها سامح شكري لحضور مؤتمر باريس، وأوفدت إبراهيم محلب، مساعد الرئيس المصري لشؤون المشروعات القومية، في إشارة إلى عدم الاكتراث السياسي بالمؤتمر، دون الوصول إلى درجة الصدام، وهي رسالة استوعبتها فرنسا، وبعدها زادت من وتيرة المشاورات وخفض مستوى الخلافات وقام سفير فرنسا بالقاهرة بدور معتبر في هذه المسألة.

تريد فرنسا إجراء انتخابات في ليبيا دون التيقن من أن البيئة المحلية والإقليمية والدولية مواتية تماما لها وتضمن تنفيذ مخرجاتها. ولدى الرئيس إيمانويل ماكرون قناعة أن الأجواء الحالية تساعده على تبني وتنفيذ مبادرة سياسية في ليبيا.

في المقابل، تجتهد مصر لتوفير ضمانات عملية لهذه الخطوة الكبيرة، بناء على خبرتها وفهمها لطبيعة التعقيدات التي تمر بها الأزمة الليبية. وترى أن إجراء انتخابات من دون استعدادات كافية سوف يعيد الإخوان إلى المشهد الليبي مرة أخرى.

وتستبعد بعض الدوائر السياسية في مصر الوصول إلى تفاهمات كبيرة مع فرنسا تسمح بتبني رؤية مشتركة لفك شفرات الأزمة الليبية، فلا تزال فرنسا راضخة لرؤية غربية لا تمانع في مشاركة التيار الإسلامي في السلطة واستمرار دعمها لحفتر تحيط به شكوك كبيرة ومرتبط بحجم الدور الذي يلعبه في محاربة المتطرفين ومنع وصولهم إلى جنوب أوروبا، وهي رؤية تعتبرها مصر قاصرة، لأنها لا تفرق بين معتدلين ومتشددين إسلاميين، فكلاهما له مشروع سياسي يؤثر على مصير الدولة المدنية.

المصدر
العرب

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى