كتَـــــاب الموقع

“الأجنبية” لعالية ممدوح: في مديح الخوف

سالم العوكلي

مونولج روائي يتوسع كحريق في قش الحكايات المتناثر في الذاكرة مذ أشعلت عود ثقاب السرد بجملتها الأولى “بيت الطاعة” لتنفتح البيوت الحميمة أمام فضول الساردة كأمكنة محتملة لممارسة طقوس الخوف بغبطة. وما بين طقوس الخوف وطقوس الطاعة يحفر النص عميقا في ثيماته الإنسانية، مطيلا المكوث عند تفاصيل رهن التأمل الروائي، فيحلل كل نظرة أو إيماءة أو ضحكة أو سأم تجيد صنعه البيروقراطية في الإدارات الرطبة، ثم بقدرة تُغبط عليها تدير الألم بحنكة دون أن تتورط في نحيب أو شكوى قروي تاه في مدينة مزدحمة.

فالمؤلفة لا تمسح أبعاد ومساحات السرد بحس هندسي، لكنها، بفضول الجيولوجي؛ تحفر قطاعاتها عميقا، وتحاور كل طبقة من طبقات الوعي أو اللاوعي عبر فلسفتها الخاصة التي لا يحكمها سوى الحدس القوي والذهاب دون حدود في تأويل كل ما هو هامشي وتافه ومزدرَى، وبأصابع ملساء، بلا ملمح أو هوية، كم تمرغت في أحبار المطارات دون أن تبوح بسرها، تتلمس صخر الوقائع الصلبة، وبقرون استشعار مكتظة بعيون سرية تتأمل عتمة الأعماق، تحمل العيّنات المنتخبة إلى مختبر حدسها الذكي لتعيث فيها تشريحا وتقطيرا فتتصاعد أبخرة الخوف الحارة من كل سياق.

تمضي في استجوابها السردي لمتهمي الذاكرة، أو حاضرها الذي تعيشه خارج المكان والزمان، أو مستقبلها الذي لا يمت لها بصلة ، وتنصب محكمتها الشاسعة ، تستدعي الشهود والأدلة والقرائن ثم ترفع الجلسة دون أن تلقي حكما ،مخلصة لأخلاقية الفن الروائي الذي يترك الأحكام معلقة.

الوتيرة نفسها، والتودد إلى الهامش هو نفسه، حين تتحدث عن الأصدقاء وعن الأهل والبيت القديم، عن الهوية وجواز السفر، عن توحش اللغة الحارنة، أو المرض الجلدي، عن فوبيا الإلكترونيك والعالم الافتراضي، عن الثمالة والعرق العراقي، عن الشرطي، وعن النوم الذي يتلوه نوم،عن البيروقراطية الساذجة، وعن الموت بحس رواقي، والأب المخمور الميت المستوحش، أو عن البوعزيزي . ثيمات تتصل وتنفصل، تتحرك وكأنها في خلاط يدور فيحيلها إلى مزيج كل مرة يغلب عليه لون أو نكهة، وما يستحق النسيان يلتصق بالحواف أو يختفي تاركا بُواخه يتكثف على زجاج روح شفافة كالهواء.

عناوين تظهر بقوة وتختفي، لكن صداها جميعا يبقى في ثيمة الكتاب المركزية (الخوف مستساغاً) الذي يشد كل الوقائع صوبه، مثلما يشد أزر صاحبته ويقف بجانبها كشيطان حارس لا تغفل عينه عنها، كظل لا تخفيه حتى العتمة، كمرآة في حقيبتها الجلدية تتملى فيها ملامحها كلما غامت في لهاثها خلف الهوية المراوغة، ولا يمكن مراودة أي تعريف لهذه الثيمات الشائكة إلا بوضعها في قلب العبث كي تُستفز وتدافع عن نفسها، تتهمها وترافع عنها، تغبشها كي تمسحها مثلما تنفخ بخار رئتيها على زجاج العدسة كي ترى أفضل. الرواية التي تفكر وهي تتقدم، أو بمعنى آخر الرواية التي تحقق شرطها الأخلاقي الوحيد؛ المعرفة، أو شرطها الفني الوحيد، كما يتصوره كونديرا “أن تقول ما لا يقال بغير الرواية”.

مثلما تنفض الغبار عن ألبوم وتقلب الصور، الشخصيات تأتي وتذهب، بمصادفة أو كما يقترحها هذيان السرد المحبوك عبر مونولج تتزاحم فيه الأصوات دون أن تحدث ضجيجا ، تتزاحم حولها دون أن تفرط في وحدتها، وتشغل مقاعد الحفلة ويظل مقعد الراوية شاغرا وحده ومهيمنا على الحضور، الجميع يدخل معبدها ويخرج مُعمّدا بماء نثرها المقدس، تلقي بمديحها الحميمي لمن تحب، أما من يستحقون الهجاء فتفضل أن تخرجهم سريعا من مسرح الحدث .

وكلما خرجت شخصية من مسرح الأحداث تدخل شخصية أخرى كي تضيء الثيمة من زاوية مختلفة، فتترك الشخصيات التي تمر أشباحَها تتلصص من النوافذ التي تتركها مُشرعة، هي لا تحضر بقوة ولا تختفي بقوة أنها بين البين، وهذا الـ “بين بين” هو المُولِّد الرئيسي لانشغالات السرد الذي يتفلسف دون أن يتورط في صلة بالفلسفة كما نعرفها، وهو الصراط الدرامي غير المستقيم الذي تمشي فوقه تأملات الرواية دون أن تنشغل بسدرة الإجابات ، كأنه رصيف في شارع خلفي تتسكع فوقه كل حماقاتها الممكنة وأخطائها التي لا تتوخي لها تبريرا أو تطلب لها صفحا ، تدافع عن كل ما هو مستساغ أو مزدرى داخلها لأنه هويتها الوحيدة في شوارع منضبطة تسير فيها دون أوراق ثبوتية، وترحل كل مرة صوب أرخبيل الذاكرة المجزأة لأنه السفر الوحيد الذي لا يحتاج إلى جواز سفر. البين بين، الذي تقترحه قاعدة لكتابتها حين تُفكر: “بعيدا عما يسمى: لا بالسيرة ولا بالتخييل الذاتي، وإنما بين بين” متسلطا على مساحة السرد، هو في الجوهر ما يجعل من الخوف كائنا حميميا وبشوشا، محتكرا لها وحدها، ولتصوراتها الرواقية عنه: “سعيت أن يكون خوفي لي وحدي. لا يزور من أحبهم ولا أراه على أساريرهم، وعلى الخصوص البنات اليافعات. اقتربت منه كثيرا وعقدت معه صفقات كاسدة أو رابحة لا علم لي بذلك تماما وتصورت أنه مادة قد تدرس في المراحل الابتدائية وتتناقص في الثانوية وتختفي في الجامعة، وبين هذا وذاك، كنت أكتب وأنشر هنا وهناك وأظن أن بعضا من سيول الخوف ساحت على ذقني وثيابي ونصوصي.”.

كتاب سرد أو سيرة أو تخييل ذاتي، أو ليس شيئا مما سبق، لا ذاكرة له، فهو ينعق (ولن أقول يغرد) خارج سرب الرواية العربية، يتحسس كل مواطن الخراب التي مر بها الجسد والروح في أمكنة وعرة يصعب احتمال أظافرها المغروسة في لحم كل حكاية.

ولا ينتمي هذا الكتاب إلى ذاكرة السرد الأوربي لأنه تائه وبلا هوية، قدره أن يكون أجنبيا على جنسه الكتابي مثل مؤلفته، نص مجازف تصعب فهرسته في أرشيف المكتبات المنضبطة، ثمل حتى النهاية وخائف حد الهذيان واللعثمة، حتى الأسماء تندس كمفردات عادية في النص وكأنها تختفي من خوف ما، أو كأنها بلا هوية تندس وسط زحام الكلام العادي، أو أن “الآسامي كلام شو خص الكلام” .

ماذا تعني الألفة؟ سؤال مضمر لكنه يتأهب للبوح بإجابات غير متقنة في هذا الفزع الدائم من فكرة البيت وفكرة الوطن، فاللامكان هو المنفى النفسي داخل المنفى الجغرافي، والعراق المذكر الذي تكرهه بشفقة وتحبه بقسوة يظهر كلحظة غضب تتحطم فيها الصحون على بلاط الحنين الممزوج بالمقت، وزجاجات العطر والكثير من الذكريات المرة، كأن الصحفي الألماني المطرود من وطن الفاشية إلى منفاه غير الاختياري يطل من نافذة مواربة قائلا: “لأننا نحب ألمانيا يحق لنا أن نكرهها”، ومن يحق له أن يكره العراق غير من يحبه. غير أن كل هذه المشاعر المتضاربة حد الاتساق؛ التي تتحرك داخل آلة خلط بحجم العالم، تختفي هي أيضا تاركة المكان لبطل الرواية ، الخوف بجدارة، الذي هو المقلع الأصيل لكل تلك المشاعر، حيث يفقد كل شيء أصالته ويغدو مزيفا، حتى الطغاة الذين يتكاثرون في هذا المكان مثل البعوض يفقدون أصالتهم والكاريزما التي تؤهلهم لهذه المهنة الشاقة، وليس فيهم ما يشبه الطغاة الحقيقيين سوى قدرتهم على إنتاج الخوف بغزارة، فبعد عامين من سقوط الطغاة الهزليين تكتشف مسخا آخر من مسوخ كافكا: “حشود الطغاة الصغار العاديين البهلوانيين لا يتسمون بخصوصيات وخصال وقامات الطغاة الحقيقيين . لا يتمتعون بقوة السحر اللغوي أو النطق الفصيح أو الكاريزما الماكرة ولا الجنون الحقيقي. طغاتنا أقل من الخزي وأدنى من العار ولا يجوز لنا أن نفقد أعصابنا ونحن ننوي التخلص منهم.”.

اقتباس حاذق من الرواية رأيت أن اختم به هذه الملاحقة اللاهثة لسيرة لا تنفك تمارس خداعها، كأنها ثقب أسود يختفي فيه ثقل الزمن وثقل المكان، تاركا للنص خفة أن يترنح ثملا مثل كهل عراقي امتص عذوق النخل، يتسكع آخر الليل في شوارع لا تعرفه ولا يعرف إلى أين تفضي.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى