مقالات مختارة

أزمة الثقافة العربية

مصطفى الفقي

لا تتوقف النخب في كثير من الدول العربية عن توجيه انتقادات عنيفة للحركة الثقافية في مجملها ويصل بها الحد إلى درجة «جلد الذات» ولا يبدو مما تكتب هذه النخب أو تقول على من نلقي باللائمة؟ هل هو ذلك الذي يصدر المادة الثقافية أم ذلك الذي يستقبلها على غير استعداد؟ وتبدو المشكلة برمتها مشكلة متوازية مع مثيلات لها في مجتمعات تمر بظروف مماثلة أو هي عبرت عليها، وأنا أسجل بداية اعترافنا بأن الثقافة تمر بأزمة حقيقية باعتبارها المسؤولة عن ترشيد السلوك العربي خصوصاً أمام القضايا القائمة والمشكلات الحالية، وإذا أردنا أن نرصد العناصر الحاكمة والعوامل المؤثرة التي تصب في خانة أزمة الثقافة العربية المعاصرة، فإننا نرصد منها عدداً من المحاور أهمها:
أولاً: تعرضنا في مقال سابق إلى العلاقة الوثيقة بين الثقافة والتعليم وخرجنا بحقيقة مؤكدة وهي أن العلاقة بينهما طردية، فالتعليم الرديء لا ينتج ثقافة جيدة، لذلك فإن تراجع التعليم العربي المعاصر أدى بالضرورة إلى تراجع مماثل في الحركة الثقافية عموماً، ومع إيماننا بأنه ليس كل متعلم مثقفاً أو العكس، إلا أننا نظن أن التعليم الجيد يفتح شهية المجتمع لاستقبال ثقافة عصرية مؤثرة في مسار الحياة وسياق التطور، إذ إن قادة الرأي ورواد الثقافة هم في النهاية صناعة التعليم الوطني دينياً كان أو مدنياً، لذلك فإن من الطبيعي أن نربط بين تنامي الحركة الثقافية في بعض الدول وازدهار العملية التعليمية فيها.
ثانياً: لقد قالوا قديماً إن الحاجة أمّ الاختراع، وأنا أضيف إلى ذلك قائلاً كذلك إن الحرية أمّ الإبداع! وأنا أظن أن الارتباك الذي تشهده الساحة الثقافية هو نتيجة طبيعية لتراجع الحريات وغياب الديموقراطية، كما أن وجود مشروع قومي تلتف حوله الجماهير هو تحريك لها في اتجاهات إيجابية، وإذا تذكرنا الحركة الثقافية المصرية إبان معركة بناء «السد العالي» لوجدنا أن الازدهار الذي تمتعت به الثقافة المصرية حينذاك ـــ على رغم ضعف الديموقراطية وقبضة الحكم القوية ــــ هو نتاج الروح الوطنية العالية التي صنعها مشروع وطني التف حوله الناس، وقد يقول قائل إن بعض المظاهر الثقافية تجلت في ظل نظم شمولية ذات طابع ديكتاتوري، فهناك بعض الفنون التي ازدهرت في الاتحاد السوفياتي السابق والكتلة الشيوعية في خمسينات وستينات القرن العشرين، ونحن نتذكر هنا مسرح «البولشوي» وازدهار فن الباليه وقدرة كثير من الأدباء والفنانين الروس على جذب الانتباه، وهنا نقول إن سوء المناخ السياسي والتضييق على الحريات قد يؤديان إلى انطلاق المواهب الأدبية وتوهج الأفكار الفنية نتيجة القهر والاستبداد أحياناً على رغم أنهما حصاد دائم للحريات واحترام حقوق الإنسان وتطبيق المعايير الدولية المتعارف عليها في احترام الفرد داخل إطار الجماعة الوطنية.
ثالثاً: لا بد أن نعترف أننا كعرب مستغرقون حتى النخاع في الماضي ورواسبه ولا نكاد نفكر في المستقبل وتحدياته، فنحن بحق أمة ماضوية تُعنى بترديد أشعار الحماسة والحديث المستمر عن أمجاد الماضي وكأنما هو رصيد لا ينضب يمكن أن نعيش عليه دائماً بغض النظر عن التغيرات السريعة حولنا والتطورات المتلاحقة أمامنا! ولا شك في أن ذلك ينعكس بالضرورة على المناخ الثقافي العام والقدرة على إحداث نقلات نوعية تؤدي إلى تجديد الفكر وإحياء الثقافة.
رابعاً: تصيبنا الدهشة من منظورها الثقافي والأخلاقي أيضاً عندما نرى الفارق الكبير بين الأجيال المختلفة على الساحة الثقافية وندرك حجم الانفصام القائم بين جيل إلكتروني ـــ إن جازت التسمية ـــ وجيل تقليدي لا يزال يرتبط بالورق ولا يتحمس كثيراً لثورة المعلومات التي اجتاحت شكل الحياة المعاصرة، وهنا أشير إلى أجهزة الإعلام ومؤسساته المختلفة وفي مقدمها الصحافة لكي أقرر مسؤوليتها جميعاً عن توسيع الهُوة وشيوع الشخصنة وضعف القدرة على إجراء حوار صحي بين الأجيال كبديل للصراع الذي يمكن أن تؤدي إليه. إن جيلنا يشعر أحياناً بالغربة تجاه المعارف التقنية والأدوات الحديثة التي تحوزها الأجيال الجديدة وتتعامل معها في يسر وبراعة. إننا أمام مرحلة فاصلة في تاريخ الإنسان على الأرض ولا بد أن تتواكب الثقافة تلقائياً مع روح التكنولوجيا الجديدة وهو أمر ما زال يحدث فجوة بين جيل الكمبيوتر وأجيال أخرى سبقته. إنني أقصد هنا أن أسجل تأثير الهوة التكنولوجية في المسار الثقافي برمته وانعكاس ذلك على ما يمكن أن يؤدي إلى ما نسميه صراع الأجيال.
خامساً: إن ما حصل على الساحة العربية في الفترة الأخيرة أدى إلى تغييرات سلبية على رغم حسن النوايا والرغبة في التغيير إلى الأفضل والتطلع إلى الخلاص من أسر الماضي، فعلى رغم أننا ننظر إلى حوادث الربيع العربي نظرة إيجابية في معظمها، فإنني أزعم أنه تواكب معها عدد من المظاهر السلبية، إذ إن الذي سقط ليس حاجز الخوف وحده ولكن سقط معه أيضاً ستار الاحترام ودخلنا في دوامة من عدم الاستقرار بل وشيوع الفوضى تحت مسميات ظاهرها إيجابي ولكن باطنها سلبي حتى تأرجحت الأرقام في بورصة البشر وأصبحنا أمام سلوك ثقافي صلف، وإذا كنا قد ارتضينا جميعاً بأن الإصلاح قضية مجتمعية تشمل السياسة والاقتصاد والثقافة وغيرها فإننا نقصد بذلك السعي إلى الإصلاح الحقيقي الذي يصل إلى جوهر العقل ويضرب الخرافة في مقتل. عندئذ سوف يكون من حقنا أن نتحدث عن ثقافة إيجابية في ظل فكر مختلف وعقل عصري حديث. إن أخطر ما يهدد الثقافة العربية ويزكي نار أزمتها الحادة هو مجافاة المعرفة والابتعاد عن التفكير العلمي والسعي لتكريس الخرافة تحت مظلات تاريخية وأحياناً دينية، لذلك فإن المناخ الثقافي الجديد يجب أن يكون طارداً للخزعبلات والمواريث المتهالكة بسياسات عصرية تصل بنا إلى ما نتطلع إليه.
سادساً: إن لدينا في إطار العروبة نظرة حذرة أحياناً إلى الثقافة الأجنبية عموماً والفكر الغربي خصوصاً، وهو أمر أدى إلى عزلة العلوم العربية أحياناً وانكفائها الى الداخل وانعدام قدرتها على التفاعل مع الثقافات الأخرى للأخذ منها والعطاء لها، ويكفي أن نتذكر أن قضية التعريب استخدمت أحياناً كسلاح ذي حدين أحدهما تأكيد الذاتية ودعم الخصوصية والثاني هجر الغرب وتراجع الاهتمام بالتطورات الفكرية ذات الطابع العالمي والمضمون الإنساني. لقد أضحت القومية أحياناً قيداً على الثقافة لمصلحة روح متعصبة أحياناً ومتشنجة أحياناً أخرى بل ومتطرفة في كثير من الأحوال، واضعين في الاعتبار أن العلاقات الدولية المعاصرة تعتمد على العامل الثقافي في شكل متزايد، فالعولمة وصراع الحضارات والحرب على الإرهاب هي في مجملها مكونات ثقافية المضمون في إطار العلاقات الدولية المعاصرة ولا يمكن اختزال الثقافة كسلوك قومي وتعبير إنساني بعيداً عما نطلق عليه حوار الحضارات وتزاوج الثقافات واحترام خيارات الآخر، ويجب ألا يغيب عن الذهن أن حركة النشر والتأليف والترجمة تراجعت هي الأخرى في معظم الدول العربية بما يوحي بأن المسألة أكبر وأشمل مما هو منظور على السطح.
سابعاً: يجب أن نعترف – بأسفٍ – بأن الشباب من الأجيال الجديدة لا يبدو متحمساً للآداب الرفيعة واللغة الرصينة بل هو يتجاوز ذلك كله لقضاء الساعات الطويلة أمام مقتنيات تكنولوجيا المعلومات، متصوراً أنه حاز المعرفة ووضع يديه على مصادرها المعاصرة ولا حاجة به إلى دراسة التراث الذي يمكنه من اللحاق بروح العصر وأفكاره الحديثة ومبادئه المؤثرة. إننا بحق أمام تحول ضخم يلزمنا جميعاً أن ندرك المفهوم الحقيقي للثقافة، فهي تمثل الإطار الفلسفي للبناء الحضاري المؤسسي بل إن كثراً من المفكرين المعاصرين يربطون ربطاً مباشراً بين تعبيري الحضارة والثقافة على اعتبار أن الحضارة هي نسق ثقافي يعتمد على نسب مقبولة ورؤية واعية.
إن هدفنا من إثارة موضوع أزمة الثقافة بعد الكتابة مباشرة حول محنة التعليم هو أن أقول أن مشكلة المشاكل في حياتنا ليست سياسية ولكنها حضارية بالمفهوم العام، بل إن هزائمنا هي هزيمة للعقل العربي بالدرجة الأولى وهو الذي يجب أن يخرج من الشرنقة ليواجه الحياة المعاصرة بكل ما فيها من رياح وأنواء معتمداً على عقل متفتح وقلب مفتوح يستطيع بهما أن يقدم للعالم ثقافة عربية مؤثرة تسهم في وضع العرب في موقع لائق على خريطة العالم المعاصر.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
صحيفة “الحياة” اللندنية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى