كتَـــــاب الموقع

أردوغان… “الراقص على الحبال”

رفعت المحمد

بعض الكائنات في الطبيعة لها قدرة عجيبة على التلوّن والتمويه، تخدمها في اتجاهين؛ أولهما التخفّي عن أعدائها، وثانيهما تحيّن الفرصة لاصطياد فرائسها.

في عالم السياسة ثمّة نماذج لا تبتعد كثيرا عن تلك الكائنات، وتأخذ هذه القدرة عندها أسماء مختلفة مثل “النفعية” أو”البراغماتية”.

الرئيس التركي رجب طيب أردوغان نموذج لأولئك الساسة، وفي تتبع لمواقفه السياسية مذ كان رئيسا للوزراء حتى وقتنا الحالي؛ نجد أمثلة كثيرة على تلوّن سياساته وتقلّبها المفاجئ، الذي ربّما يكون أسرع من تغيير الكائنات التي ذكرناها للونها أو شكلها.

تزامنت فترة رئاسته للوزراء مع “الربيع العربي”، وكانت سياساته انعكاسا لمصالح تركيا في البدء، ثم ما لبثت أن خضعت لتغيّرات جذرية أحيانا، فرضتها ضغوطات حزبه “العدالة والتنمية”، خاصّة مع بروز قوى إسلامية في الصف الأول من بعض تلك “الثورات”.

وعلى نقيض الموقف التركي “شبه الثابت” من ثورتي تونس ومصر، فإن موقف أردوغان شهد انعطافات وتغيرات متواترة وسريعة تجاه الأوضاع في كلّ من ليبيا وسوريا.

تحفّظ أردوغان في موقفه من الثورة الليبية في أول انطلاقها، وعزا بعض المحللين ذلك إلى حجم التبادل التجاري الذي تخطّى الـ10مليارات دولار سنة 2010 ، مع وعود من القذافي بزيادة الاستثمارات التركية في ليبيا لتصل 100 مليار حتى عام 2013، وهذا ما أسال لعاب أردوغان، وجعله يرفض تدخل الناتو، على الرغم من أن تركيا عضو فيه، ويصرح بأن ذلك سيُنتج آثارا عكسية.

وربما كانت دعوة القذافي لأردوغان لحضور القمة العربية في سرت 2010 كضيف، دور مساعد في ذلك الموقف، وهو حضور استثمر فيه القذافي رمزية وجود أردوغان للدعاية لسياسته على المستوى العربي والأفريقي والإسلامي. وربما يفسر هذا عرض أردوغان على القذافي لاحقاً، وساطة لوقف إطلاق النار.

الموقف داخل “العدالة والتنمية” كان مختلفا، إذ تصاعدت الآراء المؤيدة للثورة، خاصة مع بدء الناتو ضرباته، وبروز حتمية هزيمة القذافي، واعترفت أنقرة بالمجلس الانتقالي، واستقبلت رئيسه في مايو 2011، دون قطع الخيوط مع القذافي تماما. تلت ذلك زيارة قام بها أردوغان في سبتمبر 2011 بعد سقوط القذافي، وأعلن موقفاً جديدا حاسما هذه المرة، حين أشاد بالشهداء الذين ضحوا في سبيل وطنهم ودينهم.

استثمر أردوغان لاحقا في الفوضى التي عصفت بليبيا، ودَعَمَ الفصائل المتشددة، في محاولة لفرض سيطرة الأخوان المسلمين في المنطقة، وما السفينتين المحمّلتين بالأسلحة التي ضبطتهما السلطات اليونانية في طريقهما من تركيا إلى مصراتة، إلا غيض من فيض ذلك الدعم “الإخواني” لمتشددي داعش في ليبيا، وهو دعم أثبته الجيش الوطني بالأدلة، في مؤتمرات صحفية متعاقبة للمتحدث باسمه.

في أزمته الأخيرة مع الولايات المتحدة، والتي أدت لانهيار وشيك لليرة التركية، أوقف أردوغان رواتب الكثير من قيادات الميليشيات المسلحة التي تقاتل لحساب تركيا في ليبيا، وأوقف كذلك الدعم عن كثير من المؤسسات الإعلامية المؤيدة لتلك الفصائل، بل وصل الأمر به إلى الاستنجاد بحلفائه من بعض قياديي تلك المجموعات، وبعض المؤسسات المالية الليبية في تركيا مثل المصرف الليبي الخارجي، صاحب الحصة الأكبر في المصرف العربي التركي، أو بنك “زراعات” التركي الذي فيه الكثير من الودائع الليبية، لتحويل ودائعها من الدولار واليورو إلى الليرة التركية لإنقاذها من الانهيار.

في سوريا يمارس أردوغان التحايل السياسي ذاته، ويغير سياسته كلما لاحت في الأفق صفقة جديدة حتى لو اقتضت منه عكس آرائه ومواقفه 180 درجة. فمن حليف استراتيجي للرئيس السوري بشار الأسد في فترة تعد الأكثر ازدهارا بين البلدين، وكان أبرز ملامحها إنشاء المنطقة الحرة للتبادل التجاري وإلغاء التأشيرات بين البلدين، إلى استقبال إسطنبول أول مؤتمر لـجماعة “الإخوان المسلمين” السورية المعارضة، ومن ثمّ دعم تركيا لـ”جبهة النصرة” الإرهابية، للضغط من خلالها وفرض مواقفها في الأزمة السورية.

في الآونة الأخيرة، وبما يشبه التناقض في المواقف، وقّعَت تركيا مع روسيا اتفاقا يقضي بإنشاء مناطق منزوعة السلاح في محافظة إدلب، وإخراج الفصائل المتشددة منها وأبرزها “جبهة النصرة”، وهو أمر لم تلتزم به حتى الآن، بالمقابل تضغط تركيا على أميركا من أجل فك ارتباطها مع الأكراد، الذين تقوم مجموعات منهم بمحاربة داعش في مناطق الرقة ودير الزور، وتهدف تركيا من وراء ذلك إلى الحد من الوجود الكردي شرق الفرات وتهميشه تماما، ما حدا بالأكراد إلى وقف عملياتهم القتالية ضد داعش.

تأرجح في المواقف، وتقلّبات مفاجئة، والتفافات سريعة، وقفزات في الهواء أحيانا، واستدرار لتعاطف الشارع الإسلامي بخطابات رنّانة، ودغدغة أحلامه بأوهام الخلافة العثمانية، هذا ما تتسم به سياسة أردوغان منذ ظهوره السياسي كرئيس حكومة حتى اعتلائه سدّة الحكم، أساليب بات يتقنها، ويتفنن بها؛ ويصح معها أن نلقّبه، على عادة الهنود الحمر، بـ”الراقص على الحبال”.

زر الذهاب إلى الأعلى