مقالات مختارة

أحزاب دُنيا بلحية وجلباب

فدوى بن عامر

هناك أحزاب في كثير من الدول الأوربية كألمانيا وإيطاليا والنمسا وبلجيكا وغيرها، لها مسميات هي خليط من مصطلحات دينية لامعة وعلمانية ساطعة مثل الحزب الديموقراطي المسيحي الألماني. وبالنظر لأداء هذه الأحزاب الهجينة المسمى نجدها قد استجابت للحداثة، فرضخت لسيرورة الزمان وتطورت بأطواره فلم تعد لها كما كانت أيديولوجية دينية بقدر ما هي اليوم براغماتية الهوى والروح.

إنها براغماتية أملتها عليها الحياة السياسية كضرورة من ضروريات العمل السياسي الحديث. و هذا بالطبع أمر يُحسب لها لا عليها، حيثُ أصبحت هذه الأحزاب اليوم _ وبعد أن اجتازت مرحلة المراهقة المرهقة _ لا تتكئ في برامجها الانتخابية على هلامية الشريعة المسيحية، ولا هي تعتنق شعارات وهمية مثل “على القدس بالملايين”، كذلك ليس لها “فقيه” يخرج على الشاشات صائحًا هائجًا لجلد المستمعين بفتاوى ما أنزل الله بها من سلطان، ولا لها مجنّدون على منصات العظات العظام باسم الرب منتصبون، وعلى لسانه منتحبون لإرسال الناخبين صوب صندوق اقتراع بعينه يمنع جلودهم عن ويلات الجحيم ويُرغد أجسادهم بملذات النعيم.

هذه الأحزاب و إن كانت هجينة المسمى، إلا أنها محكومة بدساتير علمانية، وبالتالي لم يكن لها من بد إلا الحرص على المبادئ المسيحية العليا والعريضة والتي تشترك فيها مع الإنسانية جمعاء، كمبادئ الحرية والعدالة والمساواة والإنصاف والأخلاق والفضيلة وغيرها بمفاهيمها العصرية لا الماضوية، مع الحفاظ على حق الفرد في ممارسة ما رغب من طقوس و شرائع دينية ضمن حدود حريته الشخصية.

في المقابل، و في الغالب لا يمانع الحزب غير ديني “الليبرالي وغيره” و لا يمنع السعي الفردي لبلوغ السعادة الأخروية فالوعد المضروب من هذه الأحزاب لناخبيها هو ابتغاء السعادة الدنيوية لا الأخروية المتروكة للفرد. و تجتهد هذه الأحزاب لتحقيق ذلك بالسعي لتأمين المصالح المادية للإنسان في المجال الاجتماعي و الاقتصادي و غيرهما فالتدبير السياسي كما قال المفكر طه عبد الرحمن “هو تدبير للعالم المرئي للإنسان”، أي أن لعمل السياسي لا يتدخل في الجانب الميتافزيقي للحياة، كل ما هنالك هو كفالة ما يكفي من الحرية للتمكين من سد احتياجات الجانب الروحي والإيماني للفرد وبذا يتمكن المجتمع من التحقق من جدية وعود الحزب من عدمها، من خلال ما يلمس أفراده من واقعهم في فترة زمنية محددة و معلومة وذلك بحسب ما جاء في برنامج عمل الحزب، والأهم أن بإمكانهم حين التأكد من عبثية وعود هذا الحزب التخلص منه واستبداله بآخر بسلمية تامة من خلال العملية الديموقراطية.

أما الأحزاب الدينية في المجتمعات المتخلفة كبلادنا فلا تكتفي بإطلاق وعودها بالسعادة الدنيوية عبر حزمة من الشعارات الفضفاضة كما جاء على لسان ذلك “الفقيه” حين قال واهمًا و أحسبه كاذباً: “إحنا جايين انظفوا السياسة “، بل تمني الناس بالدخول في جنات الخلد أفواجا إن أطاعوا ولي الأمر كما يطيع القطيع راعيه مستغلة في ذلك إيمان الأفراد العميق بالغيبيات.

تقوم بذلك لا لشيء إلا لتمرير إخفاقاتها وارتكساتها وقصورها المطلق عن تحقيق المصالح الدنيوية للإنسان في عجز كامل و تعاجز عن حل مشاكل المجتمع أو المساهمة في الدفع بعجلة الحداثة الحقيقية. تماماً كنصيحة ذلك “الشيخ الداعية” في إحدى برامجه اليومية البائسة لامرأة يائسة كانت قد اشتكت سوء معاملة زوجها حد الضرب، فما كان منه إلا أن تفتقت قريحته و جادت بالقول “إن لم تعودي تعجبيه، فليتزوج مثنى وثلاث ورباع واصبري عليه وأطيعيه وستدخلين الجنة من أوسع أبوابها”! هذا هو منطقهم السقيم لحل مشاكل المجتمع وهذا هو دأبهم إلى أبد الآبدين، فالكل ينهل من نفس المعين الآسن.

وهكذا يُوعد الجميع بالسعادة الأخروية إن صبروا على بلائهم الدنيوي مهما عظم، لا يحركون له ساكنًا، و بتجنب التطرق لموضوع الإيمان لأنه تجربة فردية جدًا و شخصية للغاية ولا يجوز ربطها بالعمل السياسي للأحزاب من قريب أو بعيد، نستطيع القول أن الطريق الوحيد للتأكد من صحة وعود هذه الأحزاب حاليًا وكما يزعمون، لا يكون إلا بالانتقال إلى العالم الأخروي وهنا بالضبط مكمن الإشكال بالنسبة لنا و ليس لهم. ففي الرضى بهم والسكوت عنهم والاستكانة لهم ضياع كامل لدنيانا لا محالة، وفيه ضمان دنياهم و سلطانهم وأما الآخرة فلكل ما سعى. وبهذا تظل الأحزاب الدينية في بلادنا أحزابًا يحكمها حب الكراسي وتقوم على الأنانية المطلقة والذات النرجسية. فهي, إذن, أحزاب دُنا بامتياز وإن كانت متلحِّفة بلحية وجلباب. و تبقى خيباتنا متتاليات إلى يوم غير معلوم.

____________________________________________________

عن موقع راديو هولندا، هنا صوتك.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى