كتَـــــاب الموقع

“أجواء أورويلية في روسيا”

فرج الترهوني

قديماً، ومن إيطاليا في العام 1863 حدّد المفكر الثوري الروسي اللامع ألكسندر هيرزن، الذي يًكنّى بأبي “الاشتراكية الروسية” رؤيته للتوتر السائد بين روسيا والغرب قائلاً: “لقد أصبح موقف الروس صعباً للغاية. وباتوا يشعرون أكثر فأكثر بالغربة في الغرب، في حين أن كراهيتهم لما يحدث في داخل بلادهم تتعمق أكثر فأكثر”. وبحسب الباحثين في هذا الشأن، توصف تلك الكراهية في ذلك الوقت، كما هي عليه الآن، بأنها كراهية مكبوتةً أكثر منها علنية. وأن الروس لا يمكنهم الاعتراف بذلك في قرارة أنفسهم.

كان هذا الحديث منذ قرنٍ ونصف، لكنة مناسبة تذكّره الآن هي مقالٌ للكاتب الروسي “أندري كوليسنيكوف” أحد الكتّاب البارزين في الصحيفة الروسية الأكثر شهرة “ازفيستيا” في الثمانينيات، نشره في جورنال “فورين أفيرز” يحلل فيه الأزمة السياسية والتاريخية التي يمر بها بوتين والشعب الروسي نتيجة الغزو الروسي لأوكرانيا.

ينبّه كوليسنيكوف إلى أن بوتين والحلقة المقربة منه قد يكونون أمام سباق نحو القبر، لأنّ عددا من كبار شخصيات الكرملين الآن بلغوا العمر نفسه الذي كان نظراؤهم قد وصلوا إليه في أواخر حقبة الاتحاد السوفياتي، عندما توفي على التوالي ثلاثة قادة سوفييتيين هم: بريجنيف وأندروبوف وتشيرنينكو، في تعاقب سريع، ما استدعى إطلاق التسمية المزحة “سباق الجنازات”. فبريجنيف عندما قرر غزو أفغانستان، متسبباً في انهيار ما تبقى من أسس أخلاقية للإمبراطورية السوفياتية، كان من العواجيز. والآن مثل هؤلاء المسنين في موسكو الذين شنوا الحرب في أوكرانيا، التي سرعان ما تحولت إلى كارثة لروسيا – وبالأخص بالنسبة إلى شبابها. وأنه على المديين المتوسط والطويل، يظهر جليّا أن “العملية العسكرية الخاصة” (في أوكرانيا)، كما يصر بوتين على تسميتها، متجهة نحو تقويض جميع الأسس السياسية والاقتصادية والأخلاقية لروسيا.

لكن أهم ما تفرزه هذه الحرب كما يقول كوليسنيكوف هو أنّ (نظام بوتين ينظر إلى الشعب الروسي، بالطريقة نفسها التي يراه بها نظراؤه الأوكرانيون. وتكفي، ملاحظة الضغوط التي تُمارسها الآن قوى الأمن على أي شخص في روسيا يجرؤ على التفكير بشكل مختلف، إلى جانب غلق أو “تطهير” أي وسيلة إعلامية مستقلة أو مؤسسة أبحاث تقريباً، واضطهاد أي شخص يحتج على هذه الهستيريا الوطنية أو حتى لا يوافق على ما يحصل. حيث يُصورُ النظام الروسي الأوكرانيين على أنهم كتلة متجانسة تفتقر للهوية، ويتعين بالتالي إخضاعها للكرملين من خلال ما يُعرف بـسياسة استئصال النازية، وهي عملية تعني في الواقع نزع الهوية الأوكرانية، كما يجاهر بذلك علناً الآن مروّجو دعاية بوتين. لكن الروس في المقابل يُعَدون أيضاً في نظر قادتهم أنهم كتلةً ليس بمقدورها التفكير، ويتوجب تالياً أن تتبع زعيمها بشكل أعمى. وبخلاف ذلك، فإنهم سيواجهون تهماً إدارية أو جنائية، وحالة نبذ اجتماعي. أما الجنود الروس – وهي مجموعة لا تضم فقط عسكريين متمرّسين، بل أيضاً عشرات الآلاف من المجندين اليافعين للغاية الذين يؤدون الخدمة الوطنية الإلزامية – فقد أصبحوا ذخيرة للمدافع، بعدما تم إرسالهم للذبح من دون تحضير. وتسببت أفكار بوتين الحمقاء في فقدان شباب روس يافعين لحياتهم.)

ليس هناك دليل أكثر وضوحا ودلالة على هذه النظرة الاستعلائية والمتطرفة من جانب زعامة الكرملين تجاه المواطنين المخالفين من إعلان بوتين في خطاب له في الأسابيع الأخيرة، عن بدء فصل من عمليات الاستهداف لمن سماهم “الخونة في الوطن” أو “الطابور الخامس”، الذين يُزعم أنهم يعملون على تقويض وحدة الأمة، بل وصل إلى حد وصفهم بالبعوض المزعج الذي يستحق السحق. ومن أجل اجتثاث هؤلاء المجرمين، حض على إجراء “تطهير ذاتي للمجتمع”. وليس غريبا أنه في ظل الأجواء المشحونة، والضخ الإعلامي المكثف لغسل الأدمغة، وتقديم الصورة التي يريدها الكرملين أن تسود، فسرعان ما استجاب الروس للنداء، فانطلقت بعد الخطاب موجة من الاستنكار، قام خلالها الطلاب بإدانة معلميهم – والعكس صحيح – فيما أخذ زملاء يطلقون حملات الوشاية ويبلغ بعضهم عن البعض الآخر. وشجع الرئيس الروسي ممارسة أعمال وحشية ضد منتقديه. وهكذا سُجّل على متن أحد القطارات المغادرة للعاصمة موسكو، أن هاجم أحد الأشخاص الصحافي ديمتري موراتوف رئيس تحرير صحيفة “نوفايا غازيتا ” الحائز جائزة نوبل للسلام العام الماضي، وقُذف بطلاء أحمر، ممزوج بمادة الأسيتون الكيماوية السامة. وهكذا بدأت تشيع في روسيا أجواء “الأخ الأكبر” كما عبّر عنها جورج أورويل ببراعة في روايته الشهيرة 1984.

لقد قسّم فلاديمير بوتين البلاد فعليا. ومع ذلك، نرى أن غالبية واضحة من الروس يلتفون حول بوتين، على الرغم من أن معظم المواطنين، كانوا خائفين من الحرب. لكن يبدو الناس اليوم، أو على الأقل الجمهور العريض من عامة الشعب الروسي، في مزاج مؤيد للحرب.

من الواضح صعوبة قياس اتجاه الرأي العام في نظام له زعيمٌ واحد، ومع انعدام وجود أي وسائل إعلام حرة. لكن من الواضح أيضا أن الروس يشعرون بأنهم محاصرون، وقد يشعرون بالمرارة مثل بوتين نفسه. وأن الخوف من السلطة لا يمنع الناس فقط من الاحتجاج على هذه الحرب الوحشية، بل يجعلهم غير قادرين على الاعتراف حتى لأنفسهم بأن روسيا بوتين قد ارتكبت فعلاً مروّعاً. وليس أدل على ذلك من حديث لامرأة في إحدى مجموعات النقاشات المركزة في “مركز ليفادا” حيث قالت بكل جرأة: “لو كنتُ أتابع بي بي سي، ربما كنت سأفكر بشكل مختلف، لكنني لن أشاهد تلك المحطة على الإطلاق، لأن ما أشاهده في محطاتنا يكفي بالنسبة لي”. مؤيدو بوتين لا يتوانون عن مهاجمة أي شخص ينتقد الحرب، ويزعمون أنهم لا يفهمون سبب احتجاج بعض الناس عليها. وتبين من استطلاع آخر للرأي أجراه مركز ليفادا، أن 32 % يرون أن المحتجين الروس على الحرب قد تلقوا أموالاً للقيام بذلك الاحتجاج. وإلا كيف يمكن تفسير نزول آلاف الأشخاص إلى الشوارع لمعارضة تحرير أوكرانيا من النازيين؟

أما رد الفعل الهائل من المواطنين الروس العاديين فهو يُختصر بمساندة العدوان. واستبعاد أيّ أخبار سيئة، وأي شعور بأن البلاد قد تكون على خطأ. إنه لأمر مرعبٌ بالفعل أن يكون الشخص مؤيداً للشر. ويؤكد كوليسنيكوف أنه من المخيف أيضاً أن ننظر إلى الصور الفظيعة ولقطات الفيديو الآتية من أوكرانيا – باستخدام شبكة افتراضية خاصة للتحايل على ضوابط الكرملين على الإنترنت – واكتشاف مدى خطورة الحقيقة القائمة. وهكذا يبدو بالنسبة إلى كثيرين، أن من الأسهل قبول الدعاية الرسمية ومعرفة أنك تقف في الجانب الصحيح، فالأوكرانيون يهاجموننا، وما قمنا به للتو هو الرد بضربة وقائية. إننا نحرر شعباً شقيقاً من نظام نازي يدعمه الغرب، وجميع التقارير عن الفظائع التي يُفترض أن جيشنا ارتكبها هي مزورة بالفعل.
واقع الحال يقول إن فلاديمير بوتين قد حُشر في الزاوية، وأن الأمة بأسرها حُشرت معه. وأن الروس يتعرضون بشكلٍ جماعي لنسخة من “متلازمة ستوكهولم ” لجهة التعاطف مع آسرهم (بوتين) أكثر من تعاطفهم مع ضحاياه الآخرين. فالنصر عند البعض، يتطلب سلوك الطريق كله، وقهر أوكرانيا بمجملها، وهو ما يعني خوض حرب مدمِّرة حتى النهاية، لكن من الواضح لنا أيضا، أن روسيا “لم تعد على الجانب الصحيح من التاريخ” وهو ما لم تكنه أبدا في الزمن الحديث، منذ أن قتلت نحو عشرين مليونا من مواطنيها في ما عرف بمعسكرات الغولاغ أيام حكم ستالين المرعب، ومنذ غزوها لتشيكوسلوفاكيا وقمعها لما عُرف بربيع براغ، مرورا بغزو أفغانستان، وغزو سوريا، وانتهاءً بقتل المدنيين وتدمير المدن بأوكرانيا. ما يشي بانهيار ما تبقى من أسس أخلاقية للإمبراطورية السوفياتية كما يجري منذ عقود.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى