كتَـــــاب الموقع

أجهزة الإنذار الطبيعية

عمر أبو القاسم الككلي

ثمة “أجهزة إنذار طبيعية” تنذر بالعواصف والزلازل والفيضانات، تمثلها بعض الحشرات والحيوانات. فبعض الحشرات والحيوانات تمتلك القدرة على سماع أصوات فوق الأذن البشرية أو تحتها، أو تستشعر ذبذبات لا يستشعرها البشر، أو تشم روائح تتجاوز إمكانيات جهاز الشم البشري، وهذه الخصائص تؤهلها لاكتشاف “نوايا” الطبيعة، سلبية كانت أو إيجابية، في وقت مبكر يمكنها من “اتخاذ إجراءات” استباقية تتيح لها إمكانية إنقاذ حياتها وحياة أسرها.

وقد انتبه الإنسان إلى ذلك منذ القديم وصار يستدل على نوايا الطبيعة من سلوك بعض الكائنات. فصار يتوقع أن غدا مثلا سيكون ساخنا أو عاصفا أو مطيرا، من خلال ملاحظاته هذه. وهناك، في هذا السياق، مثل شعبي ليبي يقول: “قاله خيرك تزن يا بوزنان، قاله من صهد غدوة”. أي سأله لماذا تكثر من الطنين أيها الجدجد، فأجابه خوفا من قيظ الغد.

*

الدكتور سمير محمد خواسك، الجيولوجي المصري الذي عمل في الجنوب المصري لاستكشاف المعادن والمياه والنفط منذ سنة 1962 ولمدة تزيد عن خمسة عشر عاما، يورد، في هذا الخصوص، حادثة دالة وطريفة في كتيبه “في أرض العبابدة”*. والعبابدة اسم قبيلة بدوية تعيش في تلك المناطق.

مؤدى الحادثة، أنه ذات يوم جاء رجل من العبابدة إلى معسكر جيولوجي في منطقة اسمها “وادي الدباح”. الرجل “جاوز التسعين من عمره جاف العود… ولكنه ممتليء بالحيوية والنشاط”. هذا الرجل قال لأول من قابله من المخيم الجيولوجي أنه جاء “لمقابلة شيخكم.. كبير الغرباء”. فـ “الغرباء” بالنسبة إليه قبيلة لهم شيخ. وعندما دلوه على خيمة “كبير الغرباء” ووصل إليه، قال له مباشرة:
“أيها الرئيس.. لقد رأيت الفأر يحمل صغاره، وينقلها إلى أعلى الجبل، واحدا بعد آخر”.

إلا أن الجيولوجي الشاب “شيخ الغرباء” لم يفهم مقصده.
إلا أن أحد العمال من العبابدة الذين دفعهم الفضول إلى الحضور إلى خيمة رئيس المخيم لأنهم “أدركوا أن هناك أمرا هاما”. قال للمهندس:
“والله إنني توقعت أن يكون المطر قد هطل على منطقة المرتفعات.. جنوب وادي الدباح، ولم يذهب بي الظن إلى أكثر من ذلك”.
وقال آخر:
“لقد رأيت “القزع” في السماء. وهو سحاب صغير يتطاير في الجو كأنه خيوط العنكبوت، فعلمت أنه المطر.. يهطل في الجنوب، ولكن أحدا منا أيها الرئيس لا يستطيع أن يخبرنا بهذا الأمر الجلل الذي من أجله جاء الشيخ.. إلا الفأر”.

لكن رئيس المخيم قال:
“اريد كلاما واضحا أيها الناس”.

فجاءه الرد من أحد أبناء قبيلة العبابدة:

“إن الشيخ يقصد أن السيل آت لا ريب فيه، وقد يدمر المعسكر وما فيه”.
لكن “شيخ الغرباء” استنكف من أن يملي عليه فأر ما يفعل وما لا يفعل.

*

لاحقا، في الليل، خرج كلبه “الذي اعتاد أن ينام تحت السرير… […] من مضجعه وأخذ يرهف السمع ثم جذب صاحبه بفمه… واندفع إلى باب الخيمة يعالج الحبال يريد أن يفتحها”. ومثلما لم يهتم “رئيس الغرباء” بأخبار الفأر، لم يعر تنبيهات كلبه اهتماما.

اكتشف، في ما بعد، أن العمال العبابدة قد غادروا المعسكر. فأمر مرؤوسيه، في اللحظات الأخيرة، أن يأخذوا معهم ما يستطيعون ويلجأوا إلى المرتفعات القريبة. “وقضى الرجال ليلتهم فوق الجبل ساهرين، يتأملون في نور القمر معسكرهم الصغير وهو ينهار بالتدريج، شاخصة أبصارهم إلى ما يسبح من حاجاتهم .. وما تعوقه الصخور”.

* د. سمير محمد خواسك. “في بلاد العبابدة”. الهيئة المصرية العامة للكتاب، 2017.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى