مقالات مختارة

هكذا قالتِ امرأةٌ غامضة، تحبّ الشعر

أدونيس

«المقبرةُ البحرية» التي رسمها فاليري بشعره للموتى، تحلّ محلَّها اليوم، «مقبرةُ البحر» التي ترسمها الهجرةُ للأحياء.

خُذْ قارباً من الشاطئ، أيّ شاطئٍ للهجرة، وامْلأْهُ بالبشر، وسوف ترى أنّه يصل إلى الشاطئ، أيّ شاطئٍ آخر، فارغاً.

هذا بعضٌ ممّا قلته بيني وبينَ نفسي، أمسِ، حول الهجرة المعاصِرة، في مدينة نيس الفرنسيّة، فيما كنت أجلسُ على شاطئها الإنكليزيّ الذي يمتلئ بركّاب السُّفن والطّائرات الآتية من جهات الأرض.

أهلاً بك، أيُّها الرّذاذُ الذي ينزل من الغيم العابرِ، كأنّه يصعد مع الموْج العائد، لكي يقومَ بنزهةٍ قصيرةٍ على الرّصيف، إلى جانبي.

وسلامٌ على هذا البحر الذي يبدو شبهَ نائمٍ حتّى في سريرِ أمواجِه.

– 2 –

«وُلِدْتَ لكي تعرفَ الآخَرَ المختلِف»: همَسَتْ في أذني شمسٌ

تكادُ أن تتبرقَعَ بأحزاني.

وكان جمالُ العالَم قد قَبِلَ انْضِماميَ إلى جمعيّةِ أصدقائه، وابْتَكَر لي جسداً – جسراً يُتيحُ لي السّفرَ في محيط هذه المعرفة، معرفة الآخر، والتنقُّلَ في أرجائها.

أسرارٌ ترمي شِباكَها بين قدميّ، فيما يبدو الأفقُ حوْلي كأنّه مُراهِقٌ يخطو خطوات حبِّه الأولى.

– 3 –

يوقِظُ البحرُ المتوسِّطُ أبجديّةَ أساطيره على ضفاف نيس لكي تشاركَها الاحتفاءَ بعيد الكتاب (2 – 4 حزيران 2017). تسكبُ أمواجُه زُرقَتَها على بياض الكتب محفوفةً بالنّوارِس.

أُصغي إلى بعض الكتبِ تُحاوِرُ قرّاءَها.

– طِفلٌ يولَدُ نصفَ ميْتٍ في كلِّ مهد،

– طفلٌ يتحوَّلُ، لحظةَ ولادته، إلى مجرَّد هيكلٍ فارغ إلّا من العظام.

– طفلٌ يموتُ في الرّحِم،

– طفلٌ تحفرُ قبرَه مُسبَّقاً أسنانُ البشرِ الذين ينتمي إليهم.

– مَن يُمَيِّز، إذاً، بين الرّأس والقدَم، اللحْمِ والخَشَب، السّائلِ النّفطيّ، الغازيّ، والسّائل المَنَويّ، الدّمَويّ، وبين الوردة والمقصلة؟

– إنّه المسرحُ الشّامل.

– المسرحيّةُ كونيّةٌ، حقّاً، تتحوَّلُ فيها قضايا النّظر والعمل، إلى أسواقٍ، وتتحوّلُ الشّعوبُ إلى سِلَعٍ.

مأساةٌ – مهزلة. «بليَّةٌ مُضحِكة»، كما قال الشِّعرُ العربيّ، قديماً. تتخطّى مُخيّلةَ شكسبير الحديثة… ولم يخطر ما يشبهها على بال فيرجيل أو دانتي.

– لكن، ماذا؟

– الحشودُ من كلّ صوْبٍ تُكمِل عملها.

– لكن ماذا؟

– خُرْسٌ هي الألسنةُ، وكلُّ أذنٍ صمّاء.

– لكن ماذا؟

– إنه مسرحُ «القدير»، «الجبّار».

– لكن ماذا؟

– مسرحٌ تتعانق على خشباته «شمس» الثورات، وظلماتُ الأنظمة.

– لكن، ماذا؟

– …

– …

– أن يموت الإنسانُ بضربةِ بعوضةٍ خيرٌ له وللسّماء والأرض، من أن يموتَ على هذا المسرح بضربة سيفٍ أو رصاصةٍ، أو بانفجار فخٍّ سماويّ، أو أرضيّ، أو أرضيّ – سماويّ.

– 4 –

إنّها الأبديّةُ، أيُّها السّادةُ السّاسةُ الذين يقودون العالَم، تتحوّل برعايتكم، إلى روبوتٍ تسمّيه اللغةُ العربيّةُ «الإنسانَ الآليّ». روبوتٌ في شكلِ طائرٍ كلّما طارَ دخلَ في تحوُّلٍ أكثرَ تعقيداً، في مدائنَ أكثرَ اختناقاً.

إنّها الأبديّةُ، أيُّها السّادةُ السّاسةُ، تتحوّل في خطواتكم، وفي أقوالكُم وأعمالِكُم، إلى ساعةٍ رمليّةٍ بحجم الكوْكب الأرضيّ. تتحوّلُ هذه السّاعةُ بدورها إلى وقْتٍ بحجمِ هذا الكوْكَب ليس إلّا فراغاً.

«انخرِطوا في هذا الفراغ»: تقول هذه الأبديّةُ، إنْ شِئْتُم أن تكونوا، وأتباعُكم، أكثرَ قرباً إلى السّماوات. أو إنْ شِئْتُم أن تستحِمَّ عيونُكم في السّائلِ الطُّحلبيّ الذي يتدفّق من ينابيع الماضي، أملاً بأن يُصبحَ نظرُكم أكثرَ حِدّةً وجدّةً.

– 5 –

إنّها مدينة نيس، الجميلة العريقة:

يسبح البشرُ في محيط شهواتها،

وتسبح هي في محيط الأمعاء.

كتبتُ هذه العبارة في دفتر سفري، فيما كانت تتابع احتفاءَها بعيد الكِتاب، وفيما كنّا نزور مقبرتها العالية، الجميلة العريقة هي أيضاً، أرواد وأنا.

كان الأفق يحاول عبثاً أن يُنزِلَ يديه عن كتِفَي المقبرة. وكان يبدو كأنّه ينتظر قدَمَي الشّمس ليرى كيف تتربّعان على ذروةِ الفضاء، تهيّؤاً لانزلاقهما نحو الغروب.

– 6 –

دولابُ العصر يتدحرجُ بين أزِقّة المدينة.

أقدامُ العابرين مجروفةٌ في ما يشبه رقصاً دائريّاً حول سُرّة الشّهوة، كيفما كانت، ومن أيّ مكانٍ تجيء.

ستكون هذه الزّاوية المُطِلَّة على البحر في هذا الشّارع المُطِلِّ على السّماء، بيضةَ حلمٍ يطبخه العصر على نار المستقبل.

«تلك هي إحدى النّبوءات الغامضة»: قالت امرأةٌ غامضة، تحبّ الشعر.

انحني أيّتها الموجةُ أكثرَ فأكثرَ ولامِسي صدرَ هذه المرأة. ليتكِ تسألينها: «ما الزّجاجة التي ألْقَيتِها، أمسِ، بين أحضاني؟ وما تقول الرسالة التي وضعتِها بين أحضانها؟»

– 7 –

– «أكرّرُ لكِ، أيّتها الغالية، ما قلتُه سابقاً:

لم أرَ أيّ مُذَنَّبٍ في فضاء نيس إلّا ما يتشبّهُ بشُهُبٍ تهبطُ لابِسَةً ثياباً من الرّمْل، آتيةً من ثقْبٍ ضخْمٍ، شبه أسود، يجهلُ هو نفسُه كيف يتلفّظُ باسمه.

لكِنّ الضّوءَ مُتعَبٌ في شوارع المدينة. مُتْعبةٌ هي كذلك، جميع الأشجار، إلّا تلك التي تتموّج في أثير مقبرتها العالية.

والبحرُ هنا بحارٌ، والشّاطئُ شواطئ.

مدينةٌ: معجونٌ كوكبيٌّ – بشراً وأشياءَ، هموماً وأبعاداً، طفولاتٍ وشيخوخاتٍ، سطوحاً وأعماقاً، مقابرَ وقصوراً، في لوحةٍ واحدةٍ – كثيرة.

قولي، ماذا بين أحمد السّودانيّ العاشق في نيويورك، وهذا الفضاء الكوكبيّ الذي يصطخبُ جامحاً في هذه المدينة التي هي النِّصفُ الأخيرُ من اسم أدونيس ؟».

– 8 –

المقبرةُ في هذه المدينة دعوةٌ إلى الحياة.

دعوةٌ عالية، يكتبها في دفتر الفضاء حبرُ الشّمس.

في المقبرة أشجارٌ تلتَحِفُ بأحلامِ قبورٍ ليست إلا ينابيعَ للذكرى. يفضّل الأفقُ، أحياناً، أن يتآخى في هذه المقبرة، مع السّواد. ويتمنّى الحجرُ لو يقدرُ أن ينطقَ وأن يرى.

– لماذا أتذكّر الآن كيف ألقى أبو حيّان التّوحيديّ مخطوطاته في نهر دجلةَ؟

قالَ: «القائمُ بذاته هو الذي حدُّه داخِلٌ فيه»، و «ما ليس قائماً بذاته هو الذي حدُّه خارجٌ عنه».

قُلْ لي، يا عزيزيَ التّوحيديّ، مَن نحن الآن؟

– كلُّ قائمٍ بغيره هو تحديداً، تابِعٌ لغيره».

– هل يمكن القول عن إنسانٍ بأنّه «واقفٌ وجالِسٌ في اللحظة نفسِها»؟. – نعم، العربيُّ خيرُ شاهدٍ.

 

– 9 –

إنّها أشكالُ التّحوُّلات آخِذةٌ على هذا المسرح في الوصول إلى ذرواتِها الهاذِية.

الآلةُ تصبحُ إنساناً – شرطيّاً على الأخصّ، واللّاشيءُ يُصبح النّاهيَ الآمِر.

– 10 –

– لكن، ألمَ تقُلْ أيُّها الشّاعر، مراراً، إنّ الحلمَ أرضٌ

داخِلَ الأرْض؟

وأينَ مِتعةُ الشِّعر؟

أهي أن تنطُقَ وهماً بلسانِ الحقّ، وصِدقاً بلسان التوهُّم؟ تتأوّه، كأنّك تضحك، وتضحك فيما

يبدو العالمُ كأنّه يتأوّه بين شفتيك؟

– لكن، لكن، لا تثِقوا بالصّورة إلّا بحثاً عن المعنى.

– نعم، نعم، يؤثرُ صوتُ المستقبل أن يسكنَ في حنجرةِ الشعر.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

صحيفة “الحياة” اللندنية

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى