ليبيا في متاهة الأوهام
الدكتور محمد عبدالمطلب الهوني
تضافرت جهود غالبية الليبيين والقوى الغربية في إسقاط نظام معمر القذافي، وكان ذلك الهدف الوحيد المشترك بين هؤلاء الفاعلين، ثم اختلفت الرؤى بعد ذلك في المطامح والمطامع، فمطامح الليبيين كانت تتمثل في إقامة دولة عصرية تعنى بالتنمية المستدامة تحقق الرفاه للمواطنين، أما مطامع الغرب؛ فكانت موحدة في مشكلة الهجرة غير القانونية والإرهاب، ومتضاربة في الهيمنة الاقتصادية على الدولة الجديدة، وعلى الأخص فرنسا وإيطاليا، وكان خطأ الداخل والخارج يتمثّل في عدم القدرة على فهم المجتمع الليبي، وعلى تبعات الزلزال الذى أعقب سقوط النظام؛ لأن الدولة في ليبيا كانت لها مواصفاتها الخاصة ولم يكن النظام داخل الدولة وإنما الدولة كانت داخل النظام، لذلك فما أن سقط النظام؛ حتى سقطت الدولة، وكان حريًّا بالفاعلين في الداخل والخارج أن يعيدوا بناء الدولة، ولكنهم أحجموا عن فعل ذلك، وكانت النتيجة هي تراجع المجتمع إلى عصر ما قبل الدولة، والدخول في الحالة الهمجية.
البانوراما السياسية في ليبيا اليوم تتلخص في:
1. المجموعات التي تصدت وقادت حركة التغيير كانت تعاني من القصور السياسي فكراً وعملاً ، فكانت تعتقد أن الانتخابات العامة النزيهة هي الوسيلة الناجعة لإقامة الدولة في ظل انتشار السلاح وتعدد الميليشيات التي شجعت على قيامها إبان الصراع المسلح مع النظام، كما اعتقدت أن الحكومة هي من يخلق الدولة وليس العكس، والخطيئة الكبرى لهذه المجموعة تتمثّل في عدم مطالبة الأمم المتحدة بمساعدتها بقوات أممية لجمع السلاح وتفكيك الميليشيات قبل الانتخابات بالرغم من مُطالبتها بالتدخل لنصرتها في الحرب على النظام.
2. أجريت الانتخابات والتأم مجلس المشرعين ولكنه كان محاصراً بالميليشيات التي منعته من إصدار أي تشريع يتعارض مع مصالحها، ثم أجريت انتخابات أخرى فقامت الميليشيات بأول خطوة لتقسيم البلاد إلى شرق وغرب وإقامة حكومتيْن متخاصمتيْن بعد عملية “فجر ليبيا” العنيفة.
3. حاول الجنرال حفتر توحيد البلاد بالقوة المسلحة، وبسبب فشله في إنهاء الصراع وإقامة الدولة؛ تعقّد الوضع بشكل خطير واستجد في المشهد عنصر عدم استقرار آخر وهو الاحتلال الأجنبي وتواجد المرتزقة على الأرض الليبية تخضع لإمرة دول خارجية .
4. تكونت مصالح وتجذّرت المطامع في نهب للمال العام من المتنفذين المواطنين والأجانب بعد عشر سنوات من الفوضى وغياب الدولة، وهذه المجموعات المستفيدة؛ أضحت مؤسساتٍ قويةً ليس من مصلحتها قيام الدولة.
5. القيادات التي تصدت للتغيير فيما يسمى “الربيع العربي” في ليبيا تبخرت، منها من قتل ومنها من هجر ومنها من انطوى على نفسه يجتر الخيبات، ومن أصبحوا يمثّلون قوى التغيير هم أشخاص مغامرون ليس لهم هدف غير نهب الأموال بقوة السلاح.
6. وبرزت منذ البدايات مجموعة من المثقفين والطامحين في تسلم المناصب أو ما بات يطلق عليهم “ميليشيات الكلام”، تقوم بالاجتماعات في كل عواصم العالم تحت إشراف الأمم المتحدة والدول المتنفذة بقصد إيجاد حل للمعضلة الليبية، وفى كل مرة يتوافقون على حكومة أو هيئة تسقط هذه الأجسام تحت هيمنة الميليشيات، وتبدأ المحنة من جديد.
بعد هذا المسار المليء بالأخطاء والخيبات، وبعد كل هذه المعاناة التي يعانيها الناس في حياتهم اليومية، في غياب الأمن والمال والغذاء والكهرباء والصحة ومستقبل أبنائهم.. هل ستكون الانتخابات المقبلة حلاً ؟
لا أعتقد في ذلك، وسأَطرح هذا السؤال: هل البرلمان الجديد أو الرئيس المنتخب لهم قوة على الأرض يستطيعون بها تفكيك الميليشيات ونزع سلاحها؟
من أين سيأتون بهذه القوة والبلاد تغصّ بالمرتزقة والميليشيات والعصابات الإجرامية المسلحة، أم سيَستعينون بها ؟
ما العمل؟
أعتقد أنه بعد كل هذه التجارب المريرة وهذه الأخطاء المتكررة؛ وجب علينا أن نخرج من تفكيرنا الرغبوي، وأن نرى الواقع بكل قبحه وأن نتعامل معه.
إذا أردنا قيام الدولة وبسط الأمن؛ وجب أن يلتقى من يملك السلاح أو على الأقل المجموعات الكبرى منها تحت رعاية الأمم المتحدة وبتوافق من الدول الداعمة لهم، ويتفقون على الدستور والقوانين التأسيسية، وتقاسم السلطة، ونخرج من أوهام شعارات “حكم الشعب”، الذى سيظل يعاني من أولئك الذين يتكلمون باسمه.