أخبار ليبياحياة

كُتّاب ورحّالة عرب: أدب الرحلة نصّ أدبيّ أنتجته العين والعاطفة والوعي

خاص 218| خلود الفلاح

في هذه المساحة؛ يتحدث كُتاب رحالة عن أدب الرحلة كونه نص أدبي، وجمالي يوثق سيرة المكان وسيرة الكاتب. رافضين أن يكون هذا النص رصدًا تقريرًا لمشاهد الرحلة.

وقال الشاعر والرحالة باسم فرات من البديهي: ما يكتبه الأديب يحمل روحه المبدعة الخلاقة، وهذا التوثيق حين يحمل روح الإبداع والأدب فهو بلا أدنى شك عمل أدبي، وأدب الرحلات لا غبار على أنه نوع من الأنواع الأدبية التي توثّق سيرة المكان وسيرة كاتبه في المكان.

وأضاف: هذا النوع الأدبي يُعدَ العرب من رواده في العصر العباسي، وابن فضلان يُعدّ أول مَن كتب أدب رحلات بالمفهوم العلمي، في رحلته التي مضى عليها ألف ومائة سنة بالتمام والكمال، إلى بلاد الصقالبة، وابن فضلان وهو فقيه ورأَسَ وفد الخليفة “المقتدر بالله”، لكنه كتب لنا نصًّا أدبيًّا، وفي الوقت نفسه تناول حياة الناس ومعيشتهم، أي نقل صورة ثقافية اجتماعية عن المجتمع الذي تحدث عنه، ويُعدّ نصّه “رسالة ابن فضلان” الوثيقة التاريخية الوحيدة التي وصلتنا عن تلك الأصقاع والشعوب.

 

وأردف: توثيق الرحلات أدب بلا شك، ولكن يجب التفريق بين أدب الرحلات وبين التحقيقات الصحفية، فالأولى سيرة المكان وسيرة الكاتب في المكان، بينما التحقيق الصحفي يختلف ولا يُخفى على كل صحفي بل وقارئ الفرق بينهما؛ لأن التحقيق الصحفي مُقيّد بالمكان والوقائع ولا يسمح للخيال أن يكون جزءًا من النص المكتوب، فضلًا عن ذات الكاتب أن تُهيمن، فالتحقيق الصحفي أقرب ما يكون إلى صورة ضوئية “فوتوغرافية” مكتوبة، ولكن يؤسفني القول إن بعض مَن كتبوا عن المدن التي أقاموا فيها أو مروا بها كتبوا ما هو أقرب للتحقيقات الصحفية منها إلى أدب الرحلات.

ذات الكاتب

وتابع “فرات”: إذا كانت الرواية تُبنى بالأساس على التخييل وما عداه يُعدّ ثانويًّا فيها، فإن أدب الرحلات يُبنى على وقائع مُعاشه من قِبل الكاتب، وهواجسه في المكان، وتؤدي ثقافته وحسه الأدبي دورهما الكبير في تشكيل نصه الإبداعي عن المكان – الرحلة، فأدب الرحلات يتّسع للمعارف والفنون الأخرى، مثل الشعر وعلوم التاريخ والاجتماع والاناسة “الانثروبولوجي” ويستفيد من الرواية بكل تأكيد، وهو سيرة ذاتية لكنها محددة بمكان ما، عدة مدن أو بلد واحد ومدة محددة.

وقال “فرات”: قولي هذا سيلاحظه القارئ متجسدًا في كتبي في أدب الرحلات، إذ سيجد الشعر والخيال والتاريخ ومحاولة فهم المجتمعات والاهتمام بعاداتها وتقاليدها وعقائدها والمناطق الهامشية منها، مثلما الاهتمام بمتاحفها وآثارها ولغاتها وجغرافيتها، دون الاعتماد الكلي على ما سطّره الآخرون، لا سيما من المركزية الأوروبية التي ننهل منها بلا مراجعة وتدقيق وبحث، كما عند غالبيتنا العظمى إلّا ما رحم ربي، وعلى الرغم من استفادتي مما كُتب بالإنجليزية والإسبانية وبكل تأكيد اللغة العربية، فقد حاولت الاستفادة القصوى من تجربتي في الأماكن التي عشت فيها وتنقّلتُ، ومحاولة طرح الأسئلة على مثقفين وباعة وكَسَبَة وغيرهم من الذين التقيتهم في تلك البلدان، وكان محاولاتي ناجحة دائمًا في خلق أحاديث والتحكم؛ بها من أجل الحصول على معلومات عن واقع البلاد وتفكير أهلها.

دقة المعلومة

وعن تجربته، قال باسم فرات: أدب الرحلات يحمل خصيصتين مهمتين الأولى منحه حرية أوسع للكاتب أن يكتب بالمعارف التي ذكرتها في سياق حديثي أعلاه، من غير حاجة لوضع أسماء المصادر والمراجع بالشروط التي يتطلبها كتابة بحث، ولا يعني هذا مطلقًا أن يغرف الكاتب من حيث لا يعرف، فأنا أتحدث عن الكاتب الموهوب والمحترف بمعنى الذي يملك قدرة عالية على التدوين مع شعور عال ومواز بالمسؤولية، مثلًا دقة المعلومات التي يذكرها في نصّه الرحليّ، وشخصيًّا أدقق في المعلومات وأستعين بكتبٍ تحمل صبغة أكاديمية وأبحث في المجلات الأكاديمية المحكّمة، والمواقع الرصينة التي يعتمدها الباحثون الأكاديميون، والثانية، الشعرية والتخييل فيما يكتب، وهنا يجب أن يجيد الكاتب الموازنة بين المعلومات الغزيرة وبين شعرنة النص الرحليّ، وإلّا يقع في إشكالات، مثلًا الإسهاب بالمعلومات يجعل النص عبارة عن حشو معلوماتيّ وكأنه تحقيق صحفي، أو الإسهاب بشعرنة النص أي الإكثار من التخييل، يجعل النص نصًّا أدبيًّا إبداعيًّا يمكن أن يكون رواية أو نصًّا مفتوحًا، ولكنه ليس أدب رحلة. هذه الشروط وضعتها لنفسي في تجربتي في أدب الرحلات التي أنتجت سبعة كتب حتى الآن، وثلاث جوائز، آخرها جائزة السلطان قابوس للثقافة والفنون والآداب، فرع الآداب، عن مجمل أعمالي المنشورة حتى عام 2019، وهي كتبي الخمسة الأولى.

هوية تجريبية

ويعلق الصحافي والروائي عبدالله مكسور على الموضوع بقوله: أدب الرحلة ليس طارئًا على فنون السرد العربي، فهو راسخ قديم، ولا يقتصر على الاتصال بالثقافات الأخرى والأقوام المتنوعة، لنا في توثيق رحلات الحج ورحلات الأمصار العربية مثالًا تاريخيًا واضحًا لا يمكن تجاوزه.

وأضاف: لكن ما تطور فيه “عربيًا” بتقديري الشخصي في السرد الحديث هو المبنى وآليات تقديم الرحلة ضمن قالب حكائي يتصل بشكل مباشر بآليات سردية أحيانًا تكون تقليدية ومرَّات أخرى تكون معتمدة على التجريب”.

 

وأردف: لهذا أجد تداخلًا بين الشخصي والعام في أدب الرحلات الحديث، لا يمكن مثلًا الحديث عن رحلة اللجوء دون إبراز أسبابها، أو يوميات السجن دون وضعها في إطارها بين ثنائيتين “سجين-سجان”، الرحلة هنا ليست ترفًا أدبيًا بقصد الاكتشاف والتعرف وزيادة آفاق الإدراك، لذا يمكن لمس امتزاج تقنيات أدب الرحلة بتقنيات وقوالب حكائية من أنواع سردية مختلفة، وصار هذا المُنتَج يُراكمُ تجربته الخاصة ويبني معها هويته المعاصرة.

انسجام المكان مع الحكاية

وأشار “مكسور”، إلى أن الرواية الأدبية التي تقترب من الواقع وتعايشه وتلامسه وتحمل في طياتها أبطالًا من الشارع الذي يعرفه الكاتب، أو محيطه وربما عائلته، ليست بعيدة اليوم عن مفهوم الرحلة، لكنها هنا ليست بقصد التعرف على التراث والاستعراض اللغوي الذي قامت عليه الرحلة القديمة، وليست عبورًا للفضاءات الجغرافية والمسالك والبلدان، بل لقد بَنَت الرواية التي تدخل الرحلة فيها كأحد عناصرها الرئيسة قالبها الخاص، فلم تعد الحماية اليوم قائمة فقط على دوائر سردية تعتمد على أبطال يتحركون ضمن مسارات معيّنة، بل تداخل وانسجام بين المكان والجغرافية عامة مع الحكاية.
وأضاف: لم تظل العواصم الغربية مثلًا ذلك المكان الجغرافي الذي يسعى العربي لاكتشافه من خلال كتابات الرحالة بل هي جزء أساسي من الحكاية باعتبارها أحد أعمدتها، ولجوء الكتاب إلى الممازجة بين أدب الرحلة والفنون الأخرى؛ دافعه الرئيس أن المكان الجديد صار مستقرًا وساحة تفاوض مع الحياة، فلا يتم النظر إليه بعين سائحٍ جاء لاكتشافه، معادلةٌ يمكن ضبطها في الأعمال التي صار الغريبُ في الجغرافية جزءًا منها، لكنه جزءٌ حي منها يحاول البقاء على قيد الحياة، فلا يمكنهُ تقديمها دون حكايات الأبطال فيها وكذلك لا يمكنه تقديم الأبطال دون وضعهم في إطارهم الجغرافي.

وأردف “مكسور “: الأماكن اليوم في الرواية هي ليست مطارح سياحية وإنما أرضية لفهم المرجعيات الثقافية للأرضية التي تدور فيها حكاية الرواية. والرواية التي تلجأ لفنون أدب الرحلة في السرد لا تعتمد الرصد التقريري، بل هي محاولة بناء جغرافية خاصة تحمل من المكان الحقيقي والمكان المتخيَّل بتمازج واسع يمكن استخلاص مكان جديد منه، هذا المكان الجديد يعيش فقط في نفسية أبطال الحكاية، لهذا لا يكترث الكاتب اليوم لتلك القيود التي ضبطت أدب الرحلة في سابق الزمان، وإنما ما يهمه هو الإجابة عن سؤال: كيف أقدِّم هذا المكان بطريقةٍ لم يقدِّمها أحد قبلي؟، ليس بهدف اكتشافه وإنما تحقيقًا للغاية التي وُجِدَ في النَصِّ لأجلها.

أدب عابر للأجناس

من ناحيته، قال الروائي والقاص زهير كريم: أدب الرحلات هو جنس أدبي، تتمظهر هذه الأدبية في حرص الكاتب على بناء النص تحت شروط جمالية لها علاقة بتاريخ الكتابة الأدبية، بالأسلوبية، بالسردية وباقترابه من أجناس أخرى مثل السيرة الذاتية والمذكرات والرواية بالطبع. سعيد يقطين في كتابه “السرد العربي، مفاهيم وتجليات” يقدم مجموعة من الخصائص التي يتسم بها هذا الجنس الأدبي منها مثلا: استخدام ضمير المتكلم “الأنا”، ترتيب أحداث الحكاية، فنص الرحلة يخلو من التقنيات التي تعالج الزمن كبعد رابع في النص، مثل الفلاش باك، أو الأساليب التي تتعلق باستشراف المستقبل، كذلك التصاقه بالواقعية التي تبدو في معظم التجارب الرحيلة صارمة، فنص الرحلة يخلو في بنائه السردي من تدخلات الخيال. في النهاية لا يظهر لنا أدب الرحلات باعتباره نصا توثيقيا وحسب، وليس صندوقًا للمعلومات أيضًا، بل نصٌ جماليٌ، أنتجته العين والعاطفة والوعي والرؤية في التفاعل مع المكان، بل التفاعل مع طبيعة الرحلة منذ البداية إلى النهاية، وهذه العوامل كلها هي التي تقدم لنا أدبا يصفه البعض بأنه عابر للأجناس، ربما لعلاقته مع البنى السردية المجاورة، وتوظيفه للشعر أحيانا، وللمعلومة الجغرافية، وللتاريخ، وما تفرزه المشاهدات التي تتعلق بعلوم الانثروبولوجيا.

تتبع الحلم

وأضاف “زهير”: أدب الرحلات ليس تقرير، يمكن للصحافة ومراكز المعلومات والمطبوعات السياحية وكتب الجغرافية والتاريخ، أن تقوم به. ولا يعني التعرف على طبائعِ الآخرين لأسباب بحثية، ولا الحصول على دهشة جمالية توفرها غرابة العمران مثلا، ولا هي رحلة تجعل المرء يفتحَ فمَه أمام تنوع طبوغرافي، وهو في النهاية ليس درسًا انثروبولوجيا، بل هو التغييرُ العميق في رؤيتنا للعالم. كل رحلة لا يمكن حصرها بكونها سياحة، رغم ان الدافع في الأصل لا يخلو من ذلك، ولا يمكن عند كتابتها القول بانها رحلة عمل، على الرغم من كونها ذو طبيعة تجارية، حتى الدراسة في بلد آخر، تخرج من كونها رحلة معرفية للحصول على الشهادة عندما تدون، فتتحول من شهادة شخصية إلى نص أدبي مع الاحتفاظ بشروط الكتابة الأدبية.

وأردف: أعتقد أن الكتابة في أدب الرحلة مثل الحلم الذي يترك أثرا، نستيقظ لنجد أنفسنا مدفوعين للسير من خلال اللغة في تتبع ذلك الأثر.

وأوضح أن كتابه “أغاني الرمل والمانجو”، كان مكتوبًا في رأسه، منذ 20 عامًا ولم يستطع إخراجه على شكل نصّ.

وتابع: ربما لأنه ينطوي على تجربة لا تخلو من الألم والصعوبات والذكريات غير المحبوبة. في يوم أخبرني أحد رفاق الرحلة إن هناك جائزة لأدب الرحلات، سألني فيما إذا كان لدي الرغبة بالمشاركة فيها، الحقيقة هو لم يسألني، بل أبدى رغبة كبيرة، وتحريضًا على المشاركة، ولم أكن قد جربت من قبل هذا الجنس من الكتابة، و كان أمامي شهران تقريبا قبل الموعد النهائي لتسليم المخطوط.

واختتم بالقول: حسنًا؛ لم أواجه مشكلةً في الوقت، المادة مكتوبة أصلاً في ذهني، كنت أحتاج فقط لوضعها على ملف الوورد، بعد شهر تقريبًا، أنجزت الكتاب، كنت أعمل بحماس ولساعات طويلة، وشعرت حينها أنني أتخلص أثناء الكتابة من الأعباء التي خلّفتها الرحلة في ذاكرتي، في النهاية فاز الكتاب بالمركز الأول من بين عدد كبير من الكتب.

زر الذهاب إلى الأعلى