أخبار ليبيا

الارهاب القادم لن يفرق بين حكومة انقاذ وحكومة مؤقتة

إبعاد الخطر عن أراضيها. كانت هذه إستراتيجية الدول المتحكمة في إدارة الأخطار والأخطاء. دول تَعتبر، وفق دساتيرها، حماية سلامة مواطنيها المهمة الأولى والمقدسة لحكوماتها ، تلك الدساتير التي ترسي قيما عظيمة، لكنها تظل قيما محلية ليس معنيا بها سوى مواطنيها، أو من أصبح تحت ظلها من المقيمين شرعيا في حمى القانون.

إبعاد الخطر سياسة تمخضت عن كارثة الحروب العالمية التي جرت على المسرح الأوربي، دُمرت فيها مدن بالكامل وقُتل فيها الملايين، ليتم التوجه فيما بعد لنقل الأزمات والصراعات إلى ملاعب بعيدة عن الحديقة الأوربية، صاحَبَ هذا التوجه خطط مرسومة لنقل المصانع ذات نسب التلويث العالية إلى دول نامية لم تصل إلى ثقافة المواطنة المقدسة، غير أن الرعب المتولد على الصناعة النووية كان الأكثر إرهابا لتلك المجتمعات المهددة بنفاياته المشعة، فجرى البحث الدءوب عن مكبات بعيدة لهذه النفايات، وعن مناطق بدائية لإجراء التجارب النووية، ووجدت فرصتها في الدول الفقيرة أو الدول المستشري بها الفساد على مستوى إدارتها العليا، أو الدول التي تعاني من قلاقل وصراعات داخلية وفراغ سياسي وأمني، وشكلت قارة إفريقيا المكب الواسع والمناسب لمعظم سموم أوروبا ونفاياتها، لتعيد اليورانيوم المسروق من إفريقيا، بعد تخصيبه، إلى الأرض التي خرج منها، ولعل ما يعانيه سكان الصحراء الجزائرية حتى الآن من أضرار تلك النفايات وتجارب التفجيرات التي قامت بها فرنسا في فترات عدم استقرار الجزائر لدليل على هذه الجرائم الصامتة التي ارتكبتها الدول النووية في حق مستعمراتها السابقة. 

بالطريقة نفسها، ومنذ أحداث الحادي عشر من سبتمبر وما تبعها من أعمال إرهابية طالت مدنا غربية ، اتخذ الغرب عموما إستراتيجية بعيدة المدى لإبعاد هذا الخطر عن مواطنيها ونقل الإرهاب ـ بعد تخصيبه ـ إلى المنطقة التي خرج منها، عبر إثارة الاضطرابات في الكثير من المناطق، وتصدير الجماعات الإرهابية إليها، كما حدث في العراق ويحدث في سوريا وليبيا التي تحولت جميعها بعد تدمير مؤسساتها العسكرية والأمنية إلى مكبات ناجحة لفائض الإرهاب في المنطقة. وهي دول كانت منيعة لعقود طويلة ضد الجماعات الإرهابية وتعاملت معها بقسوة كثيرا ما أدانها المجتمع الدولي ومنظماته الإنسانية.

ورغم محاولة الاحتواء هذه إلا أن إشعاعات هذه المفاعلات الإرهابية وصل أخيراً إلى قلب باريس، بعد أن وجد ثغرات في الحصن الأمني الذي تم تشييده حول أوروبا، عبر استقطاب متشددين من داخل هذه الدول، أو عبر استغلال موجة الهجرة غير الشرعية التي أحرجت الضمير الأوربي وخلخلت موازينه السياسية عبر نمو سريع لقوى اليمين المتشددة. 

هذا الاختراق الذي جعل تلك القوى تعيد حساباتها، وتسعى لتشكيل تحالفات قوية من أجل تقليم أظافر الإرهاب الذي ازداد قوة وإشعاعا في العراق والشام، وبالتالي فإن البحث جار عن مكب جديد عندما تتم الحرب على مركز دولته المزعومة، وأمام الدعوات لقفل الحدود بين تركيا وسوريا، والتضييق عليه في العراق، لم يعد يوجد ملاذ سوى الشمال الإفريقي وبطنه الرخوة في ليبيا، كأرض مناسبة تعاني انقسامات داخلية وحربا أهلية، ومع جيش تحت أعمال الترميم، وممنوع بقرارات دولية من التسليح، ومع وجود حاضنة اجتماعية أنتجها قانون العزل السياسي سيء السمعة، ووجود حاضنة سياسية متمثلة في تنظيمات الإسلام السياسي وما يناغمها ـ رغم التناقضات الظاهرة ـ من جماعات متطرفة تسيطر على أراض وموانئ ومطارات وحدود برية وبحرية. كل ذلك يجعل من ليبيا المكب المثالي لنفايات الإرهاب التي وصلت إلى أماكن ترفيه المواطن الباريسي، خصوصاً مع الإجراءات التي اتخذها الاتحاد الأوربي بجواز تدخله العسكري لحبس الهجرة في الساحل الليبي. 

التفكير جديا في مثل هذا السيناريو يجعل من الحري بالقوى الوطنية الليبية، ومن قبائلها المنتشرة في أرضها، ومن القوى الداعمة للشرعية أن توحد جهودها من أجل درء هذا الخطر الذي سوف لن يستثني أحدا بوتيرة تشدده المتصاعدة يوميا، بما فيها ممثلو الإسلام السياسي الذين يلعبون بالنار عبر تكتيكاتهم الداعمة لهذه الجماعات، أو المتغاضية عنها في ظل الحكمة الشائعة (عدو عدوك صديقك) وإن لم يكن صديقك فهو طرف يخدم مصالحك ولو بشكل مؤقت. 

 ويبدو أن لا حل في الأفق بعد فشل الحوارات المحلية، وما لمسناه من كمية أحقاد شخصية ـ وليست اختلافات ـ بين الأطراف، إلا التوافق حسب أجندة الأمم المتحدة بكل عيوبها وشوائبها، وسيكون التسامي المصلحي عن هذه الأحقاد، والتنازلات المقدمة من كل الأطراف، ضرورة من أجل بقاء أرض تحت أجلهم ليتنازعوا فوقها، وتضحية من أجل أن لا تكون ليبيا صومال شمال إفريقيا، لكونها على مرمى حجر من إعلانها دولة مفلسة وفاشلة، ، ما سيشكل في مجمله ذريعة لقوى (السلام العالمي) كي تحتل مكب الإرهاب الدولي المسمى ليبيا كما حصل في أفغانستان. وهذا المآل الذي وصلت إليه ليبيا بعد انتخابات السابع من يوليو 2012، التي أذهلت المراقبين، سببه الصراع على السلطة الذي فتح البلاد لتلاعب الأجندات الدولية والإقليمية بمصيرنا، والتاريخ البعيد والقريب يثبت أن لا أحد حريصا على سلامة البلاد سوى أهلها، ولا يحك جلدك مثل ظفرك.   

الإرهاب القادم لن يفرق بين رقاب الثوار المزعومين وبين الأزلام المزعومين، لن يفرق بين مؤتمر وطني منتهية ولايته وبين مجلس نواب منتهية ولايته، لن يفرق بين حكومة إنقاذ وبين حكومة مؤقتة، لن يفرق بين طبرق وبين مصراتة، ولا بين إسلام سياسي وبين إسلام اجتماعي، لن يفرق بين جيش وطني ولا جيش ميليشياوي ولا جيش قبائل. لن يفرق بين فيدرالي وبين وحدوي ولا بين العاصمة طرابلس أو العاصمة بنغازي . حينها ستتحول كل الأغاني التي يصدح بها السياسيون عن الثورة المباركة وأهدافها، أو عن الشرعية والمسار الديمقراطي، أو عن النسيج الليبي الواحد، إلى مراثٍ حقيقية لدولة كانت، وثورة جاءت لتنقذ الوطن من الرمضاء فوضعته على فوهة بركان. 

سالم العوكلي

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى