اهم الاخبارحياة

الأفلام بين صالات السينما ومنصات البث المباشر: لمن الغلبة؟

السينما كانت –وما زالت- فنًا من الفنون التي تستطيع تغيير حياة الإنسان للأفضل. لا يوجد شيء أجمل من المكوث لساعتين أو أكثر أمام شاشة واحدة، لمشاهدة أحداث من المعروف أنها خيالية وأن هؤلاء ممثلون ليس إلّا، لكن يتم تصديقها والتأثر بها على كل حال.

اقترنت تجربة السينما سابقًا بوجود عشرات العشرات من البشر حولك في صالة العرض، لتشاهدوا معاً نفس الفيلم. اللهاث، الصفير، وكذلك الهمس، كلها عوامل صوتية لا يمكن أن يجدها المرء إلا في صالة السينما.

لكن هذه الأيام الوضع مختلف، هذه الأيام السينما ليس بالضرورة أن تحمل تلك المفاهيم كلها بين طياتها. حاليًّا يمكن للمرء فتح حاسوبه، هاتفه الذكي، أو حتى جهازه اللوحي، وتشغيل أي فيلم يريده في أي وقت يريده. حتى أنه باتت السماعات والملحقات الصوتية لتلك الأجهزة، قادرة على محاكاة الانغماس الصوتي الذي تتميز به صالات العرض. والدليل على ذلك هو تقديم Apple لسماعات الـ Pro الجديدة بتقنية Spatial Audio. وكذلك Razer التي أصدرت تطبيقًا بالتعاون من THX لتقديم تجربة صوتية سينمائية.

كل تلك العوامل مع الوقت، عملت على سحب البساط من أسفل صالات العرض، لتكون أي شاشة على الكوكب؛ صالة عرض خاصة بصاحبها. لكن السؤال هنا: هل تعد منصّات البثّ المباشر فعلًا البديل النهائي والأوحد لصالات العرض السينمائية؟

العوامل كثيرة، لكن يمكن اختصارها في ثلاثة يمكن لها إدارة الدفّة ناحية الصالات تارة، وناحية المنصات تارة أخرى: المال، التوافر، والحماسية.

العوامل المالية

تقديم فيلم لصالات السينما، قد يختلف في بعض الأحيان عن تقديم نفس الفيلم؛ لمنصّات البث.

فمثلًا بالنسبة لمنصة نيتفليكس الأشهر من نار على علم، قد لا تتجاوز دقة العرض الـ 1080p على أغلب الهواتف والأجهزة اللوحية. وهذا بالرغم من تغنّي الشركة بتقديم جودة 4K خارقة، على أي جهاز تعمل عليه. والسبب في العادة إما يرجع لحدود برمجية في التطبيق، أو حدود سرعة في الإنترنت المحلي للبلاد، أو حتى ضغط على سيرفرات المشاهدة. هذا يجعل الميزانية المطروحة للأعمال، قليلة بعض الشيء مقارنة بالسينما. فلا يمكن بأي حال من الأحوال مقارنة تكلفة فيلم بتقنية IMAX، بفيلم مفتقر لتلك التقنية، نظرًا لكون أقصى شاشة عرض منزلي ستكون حاملة لتقنية HDR فقط، أو مثيلاتها من التقنيات المحسنة للصورة بطريقة غير سينمائية.

وبالرغم من الإذعان لحقيقة الاختلاف الشديد بين تقنيات العرض، ربما تكون ميزانيات أفلام المنصات، أعلى من تلك الخاصة بالسينما. وهذا حدث في فيلم The Irishman للمخرج القدير، مارتن سكورسيزي. حيث تجاوزت ميزانية الفيلم التي قدمتها نيتفليكس الـ 200 مليون دولار أمريكي. لكن في النهاية، الميزانية مرتفعة نظرًا للأسماء المشاركة في العمل الفني مثل ألباتشينو ودينيرو، وكذلك تقنية الـ De-Aging التي تطلبت تصميم نظام كاميرات ثلاثي فريد من نوعه، فقط للوصول لنتيجة واقعية.

لذلك مجملًا يمكن القول إن أفلام المنصات يمكن أن توفر الكثير للمنتجين، وأيضًا تُكسبهم شريحة مشاهدين واسعة النطاق. فبمجرد صدور الفيلم على المنصة، سيصل إشعار للمشتركين، وكذلك يظهر بالصفحة اللأولى، فتصبح معدلات مشاهدته (ولو لدقائق معدودة) مرتفعة للغاية. على عكس السينما التي يحتاج الإنتاج فيها لإنفاق الملايين على الحملات الإعلانية بهدف جذب الجمهور لشراء التذاكر. وهذا كله يجعل اتجاه المُنتجين للبث المباشر حاليًّا، ربما قادر على وضع السينما التقليدية في مأزق مستقبلًا.

نتيجة الجولة: المنصات تفوز.

التوافر

عند الحديث عن أفلام السينما، لا يوجد إلا خيار من اثنين: مشاهدة الفيلم في صالة العرض نفسها في وقت عرضه (والذي قد يكون 30 يومًا كحد أقصى، باستثناء العروض الخاصة بالطبع)، أو شراء قرص الـ DVD أو البلوراي عند صدوره بعد شهور طويلة من انقطاع العمل الفني عن دور العرض. يمكن أن يكون سعر التذكرة 20 دولارا، وسعر القرص 30 أو 40 دولارا؛ في الحالتين الأمر مكلف. بجانب أنه يجب عدم إهمال صعوبة توفير أفلام السينما بعد مرور سنين عليها، فوقتها ستكون الأقراص قد تم إيقاف تصنيعها، وترك الفيلم صالات العرض منذ أمد. عندها لا يوجد حل أمام المشاهد إلا القرصنة، وهذا أمر يضر صناعة السينما في حد ذاتها.

ومن الناحية الأخرى، منصات البث المباشر يمكن أن تدفع المُشاهد لإنفاق 10 أو 15 دولارا، وفي المقابل يحصل على مكتبة كاملة من الأعمال من مختلف التصنيفات الفنية واللغات، ومن ضمنها العربية بالطبع، والتي بات لها سوق في الفترة الأخيرة. وهذا ينطبق على الأعمال الحديثة والقديمة على حدٍ سواء.

فالأفلام الكلاسيكية التي لم تكن لها وسيلة إلا القرصنة، الآن متاحة على تلك المنصات بعد أن اشترت حقوق عرضها. فتلك المنصات استطاعت فعلًا تحقيق المعادلة الذهبية، حيث جذبت مُشاهد الكلاسيكيات الذي يحن لنوستاليجيا الماضي، ومُشاهد الأعمال العصرية التي يريد كل جديد. والشريحة الأخيرة بالتحديد هي التي تجذب المنتجين تجاه لنشر أعمالهم في تلك المنصات من جهة، أو محاولة القيام بشراكة إنتاجية مع تلك المنصة، والحصول على نسبة أرباح أكثر عند عرض العمل الفني الجديد.

نتيجة الجولة: المنصات تفوز.

الحماسية

هذا شيء تمتاز به صالات العرض بدون شك. العوامل التفاعلية الخاصة بالصالات، لا يمكن أن تُقارن مع منصات البث المباشر. وحتى بالرغم من وجود آليات عديدة لانضمام الكثير من الناس في غرفة دردشة صوتية واحدة، بينما يقومون جميعًا بمشاهدة نفس الفيلم معا؛ إلا أن التجربة ليست جسدية. لذلك يمكن استشفاف أن العامل الفيزيائي هو الذي يجعل تجربة السينما فعلًا لا يمكن أن يمل منها المرء أبدًا. خصوصًا بالنسبة للذين يشترون التسالي قبل العرض، وتعد نظارة العرض ثلاثي الأبعاد بمنزلة الجندي القادر على دكّ حصون العدو بيدين عاريتين.

على النقيض تمامًا، المشاهدة المنزلية الفردية، ربما في بعض الأحيان تُجبر المرء على الدخول في الاكتئاب. مشاهدة فيلم محزن والمرء وحده، هذا قادر على تدميره تمامًا، وتذكيره بأشياء سيئة في ماضية. وإذا كان الفيلم كوميديًّا، سيتمنى إن كان هناك أحدهم كي يشارك معه الضحك آنيًّا. بدلًا من أخذ لقطات ثم محاولة مشاركتها مع الآخرين على مواقع التواصل الاجتماعي؛ التي في الأساس لا تساعد الناس على “التواصل الاجتماعي” فعلًا. في الحالتين الوضع يمكن أن يكون حزينًا بعض الشيء للمُشاهد الفردي.

نتيجة الجولة: الصالات تفوز.

خلاصة القول

تحدثنا حتى الآن عن الأمر كجولات وصراع شديد، لكن في الواقع الأمر له أبعاد أخرى كثيرة، ولمحاولة إجمالها في نقطة واحدة؛ فأجدر شيء يجب تسليط الضوء عليه هو احتكاك الإنسان مع البيئة المحيطة لأول مرة.

الإنسان يبني قناعاته على مظاهر الاحتكاك الأولى له في الحياة. إذا عاش المرء في بلدٍ ثلجيّ لسنين، من الصعب أن يتأقلم في بلدٍ حار؛ والعكس صحيح. الشخص الذي تربّى على السينما التقليدية، من الصعب عليه جدًا أن يتقبل أجواء المشاهدة المنزلية. والذي تربى حديثًا على السينما المنزلية، سيجد الصالات قاتلة لحالة الوِحدة المحببة إلى قلبه.

الفكرة كلها في حب الحالة المعهودة، ومحاولة الاستمرار عليها بقدر الإمكان. لذلك مع الوقت وكثرة انتشار المنصات، بل وافتتاح المزيد منها كل عام، وباشتراك زهيد للغاية؛ اتجاه الناس لها سيكون أكثر بكثير، مقارنة بالصالات. وربما –ربما- يتقلص جمهور الصالات بالتدريج، ليكون مستقبل الأفلام فعلًا هو الشاشات المنزلية، لا تلك العملاقة الموجودة في الصالات المغلقة.

الانتقال لصالح المنصات هو شيء حتمي، والذي يفصلنا عنه فقط هو الوقت ليس إلا. مؤخرًا صدر فيلم TENET وأعاد الناس للصالات مجددًا، لكن مستقبلًا يمكن أن يعتمد نفس المنتج على HBO أو Apple مثلًا نظرًا لجمهورها المتوسع باستطراد. لا يمكن نسيان أن السينما في النهاية تجارة، والتاجر ينفق على السلعة أقل قدر ممكن من المال، لتخرج بأعلى جودة ممكنة، وجذب أكبر عدد ممكن من الزبائن.

يمكن توديع السينما التقليدية قريبًا، لكن الذي لا شك فيه هو أن جوهر الأفلام الأصولية موجود، ولن تحده الشاشات الصغيرة وغرف المعيشة المريحة. السينما هي المخرج، الكاتب، الممثل، الملحن، وعشرات القطع المتراصة ببراعة في أحجية ضخمة، ولن تقوضها الشاشات بالتأكيد.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى